بائعة أعواد الكبريت الصغيرة
هانس كريستيان أندرسون – دار المدى
وبحذر التقطت أمها الأخرى خنفسة أكبر حجمًا وأشد سوادًا من غيرها، وقطعت سيقانها. (وبعناية أسقطت السيقان في مطفأة سجائر زجاجية كبيرة على المنضدة المجاورة للأريكة) وألقت الخنفسة في فمها وراحت تمضغها بسعادة، ثم أطلقت صوتًا يشي بالتلذذ، والتقطت واحدةً أخرى. قالت كورالاين: "أنت مريضة، مريضة وشريرة وغريبة الأطوار." سألتها أمها بفم ملئ بالخنافس السود: "أهاذا أسلوب تكلمين به أمك؟" [...] بقيت الأم الأخرى جالسةً على الأريكة وقد استحال فمُها إلى خطٍّ رفيعٍ إذ زمّت شفتيها، ثم ألقت خُنفسةً أخرى، كأنَّ الكيس الذي معها يحوي حَبّات الزبيبِ المغطى بالشوكولاتة. حدَّق زرّا عينيْها الأسودان الكبيران إلى عيني كورالاين بلونهما البندقي، والتوى شعرها الأسودُ اللّامعُ وتعرَّج حولَ رقبتها وكتفيها كأن ريحًا لا تَراها كورولاين أو تَشعُرَ بها تُحرّكهُ.
كورولاين
نيل غيمان – منشورات تكوين
"أنتَ يرقانةٌ صغيرةٌ وجاهلةٌ!" خارت الترانشبول: "أنتَ عشبٌ ضارٌّ أحمقٌ! أنتَ فأرٌ فارغُ الرأسِ! أنتَ كتلةٌ غبيّةٌ من الغِراء!" كانت آنذاك قد تمركزت خلف روبرت مُباشرةً، وفجأةً مدّت يدًا بحجم مضربِ التنس، وجذبت شعر رأس روبرت كُلّه، وجعلتهُ في قبضتها. كان لروبرت شعرٌ غزيرٌ ذهبي اللون، تعتقد والدته أن منظره جميلٌ، ولذلك يسُرُّها أن تتركه ينمو. كانت الترانشبول تكره بشدة شعر الفتيان الطويل، مثلما تكره ضفائر الفتيات، وقد أقدمت على إظهار ذلك، فجذبت بقوّةٍ خصلات شعر روبرت الطويلة الذهبية، بيدها الضخمة، ثم رفعت الولد البائس عن مقعده، بذراعها اليُمنى ذات العضلات المفتولة وأمسكته عاليًا. صاح روبرت. أخذ يتلوى ويتأرجح ويتخبط في الهواء مستمرًا في الصياح مثل حيوان عالق.
ماتيلدا
رولد دال – منشورات سمير
هذه أمثلة لنصوص من كتبٍ قرأناها ونحن صغار، أو شاهدناها كأفلام ومسلسلات كرتونية في طفولتنا. ويفعل أطفالنا الشيء ذاته هذه الأيام، مع نفس الكتب أو كتب أخرى بطبيعة مشابهة، عن الموت، أو التنمر، أو محاربة الأشرار. هي نماذج للموضوعات المذكورة في عنوان المقال، والذي أسأل فيه إن كان للحزن والخوف والعنف مكان في أدب أطفالنا. لذا فربما جواب السؤال يكون: "نعم، بالتأكيد للحزن والخوف والعنف مكان في أدب أطفالنا" إجابة بديهية وسريعة، فهذه الأمثلة (وغيرها الكثير من الأدب العالمي والعربي) تؤكد بأن أدب الأطفال زاخرٌ بهذه المواضيع، وأن ذلك، على نحو ما، مقبول ولا بأس به. وربما كانت تلك إجابتكم قبل حتى أن تطلعوا على الأمثلة. لأن الأدب جزء من الحياة، وأدب الأطفال جزء من حياة الأطفال، حياتهم التي يخوضون فيها تجارب متنوعة في طبيعتها وشدتها، تجارب توسع مداركهم، وتزيد من فهمهم ومهاراتهم، وتصقل شخصياتهم. إذًا فلم أشغل نفسي بأمر بديهي كهذا؟
الحقيقة هي أنني لطالما أردت الكتابة عن هذا الموضوع، وبالتحديد منذ ستة أعوام، حين قرأت في تطبيق الانستغرام رأي سيدةٍ في قصة عربية للأطفال، تحدثت فيه عن موضوع القصة الحزين، وكيف ذكرها بجدتها التي فقدتها وهي طفلة صغيرة، ثم أشادت بلغة القصة وأسلوب كتابتها ولوحاتها، لكنها كتبت في النهاية: "هذه من القصص التي لن أقرأها لأطفالي، لكني أحب وجودها على أرفف مكتبتي."
تعجبت من قرار تلك السيدة وقد أثنت على القصة ولم تجد فيها عيبًا في الفكرة واللغة واللوحات، لكنها وجدت موضوعها الحزين غير مناسب لأطفالها. فأحببت أن أدخل معها في نقاش حول الأمر لأفهم دوافعها أكثر. ولم أنتظر كثيرًا. فكتبت لها ردًا، حرصت أن أذكر فيه بعض الأدلة التي اعتقدت أنها ستطمئنها على مصير أطفالها إن هي قرأت لهم كتبًا حزينة، طالما أنها ببنية قصصية متينة وفنية عالية. فذكّرتها بقصة الأمير السعيد لأوسكار وايلد، والحذاء الأحمر لهانس كريستيان أندرسون، ومسلسلات الأطفال الكرتونية؛ سالي ونحّول وريمي وجزيرة الكنز، والتي أبكتنا كثيرًا، لكن أهلنا لم يثنونا يومًا عن مشاهدتها وتكرار ذلك مرات ومرات. للأسف لم أحصل على أي ردة فعل من تلك السيدة توضح لي إن كان ما قلته قد أثر في رؤيتها أو لم يفعل، أو تتيح لي فرصة الحوار معها بشكل أكثر استفاضة.
بالطبع لم تكن تلك السيدة، الوحيدة المتحفظة تجاه كتب الأطفال ذات المواضيع الجادة أو التي تحيد عن المرح في طريقة طرحها للأفكار، لكنها جعلتني أكثر انتباهًا لآراء مماثلة أو حتى شديدة الانتقاد. فصرت أصادفها بكثرة في المدونات الأدبية ومواقع التواصل الاجتماعي كالانستغرام والفيسبوك، حين يكتب أصحاب تلك الحسابات رأيهم في كتاب قرؤوه أو سمعوا عنه. ولم تكن تلك الانتقادات قادمة من أولياء أمور أو قُراء راشدين لكتب الأطفال من غير المتخصصين في أدب الطفل، بل كانت تصدر أحيانًا من بعض صُنّاع كتب الأطفال أنفسهم؛ كُتابٍ وأصحاب دور نشر ورسامين على حد سواء، ترتفع وتزداد حدتها كلما نُشر كتاب أطفال جديد بموضوع مماثل، أو فاز بجائزة أدبية مرموقة.
أنا أتفهم مشاعر أولياء الأمور الذين يرون أن سعادة أبنائهم مسؤوليتهم الأولى والأهم، وأن عليهم حمايتهم من كل ما من شأنه أن يحزن قلوبهم أو يكدر صفو حياتهم، الأمر الذي قد يعني أحيانًا عدم رغبتهم في أن يقرؤوا لهم (أو يقرأ أطفالهم بأنفسهم) كتبًا بمواضيع حزينة أو مخيفة أو عنيفة. فوقت القراءة الذي يخصصه الأهل لأبنائهم هو وقت نوعي يفضلون قضاءه في أنشطة تصنع مزيدًا من الذكريات الضاحكة السعيدة في عقول أطفالهم، أو أنشطة تعلمهم قيمًا ومهارات تحميهم أو تقوّم سلوكهم وتصنع منهم بشرًا صالحين.
لكن هذا التحفظ تجاه هذه المواضيع في أدب الأطفال، مهما كان مصدره أو دوافعه، يتطلب منا أن نتأمله جيدًا حتى نفهم أسبابه وحقيقته وتاريخه. هل هو خوف قديم أم مُستحدث؟ هل حقًا يحتاج أطفالنا إلى حماية من الحزن والخوف والعنف في أدبهم وكتبهم؟ هل يستند هذا الحرص على حقائق علمية وتوصيات خبراء ومختصين؟ ثم كيف أثّر ويؤثر أمر كهذا على المنتج الأدبي في كتب الأطفال أو ما يٌقدّم لهم في الشاشة الصغيرة أو الكبيرة؟
إذًا لنسأل أنفسنا أولًا هذا السؤال التقليدي "ما هو أدب الطفل؟" هل يستطيع التعريف أن يخبرنا بما يجب وما لا يجب أن يكون في كتب الأطفال؟ هل يؤكد تعريف أدب الطفل على ضرورة أن تكون كتب الأطفال سعيدة دائمًا؟ هل يحذر التعريف من مغبة إقحام المواضيع الحزينة أو المخيفة أو العنيفة في كتبهم؟ ربما معرفة الإجابة على هذا السؤال أولًا خطوة جيدة نستهل بها كلامنا هنا، لنبني عليها حكمًا أوليًّا على الأقل، ثم ننطلق منه إلى رحاب الدراسات والبحوث المستفيضة والحقائق العلمية المُثبتة.
يقول البروفيسور الأمريكي (روجر سيل)، وهو كاتب وناقد متخصص في أدب الطفل: "الجميع يعرف ما هو أدب الأطفال حتى يُطلب منهم تعريفه. [...] لذا فمن الأفضل أن نقول إن لدينا جميعًا فكرة جيدة عما يتضمنه أدب الأطفال، ثم نترك الأمر ينتهي هناك."
.Roger Sale. 1978
Fairy Tales and After. From Snow White to E. B. White
.Harvard University Press. Cambridge
كلام البروفيسور (روجر سيل) ذكرني بما قالته دكتورة صباح عيسوي، أستاذة دراسات أدب الطفل وثقافته، في محاضرة مصوّرة لها في اليوتيوب بعنوان "قضايا ملحة في أدب الطفل" حين وصفت دراسات أدب الطفل بالدراسات "البينيّة" التي تتشابك فيها التخصصات. فأدب الطفل يُدرّسُ في عدد من الكليات والأقسام الجامعية، مثل كلية العلوم الإنسانية، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، وعلم المكتبات، وكلية الإعلام، وكلية التربية. ولكل تخصص من هذه التخصصات مواضيع محددة في أدب الطفل يعتني بتدريسها ومناقشتها والبحث فيها. هذا التشابك في تدريس أدب الطفل في هذه التخصصات المختلفة أدى إلى تنوع المسارات التي يُنظر من خلالها إلى أدب الطفل، لأن كل تخصص يتعامل مع أدب الطفل من زاويته واحتياجات تخصصة ودراساته. فكلية العلوم الإنسانية، مثلًا، معنية بالجانب الأدبي والنقدي لكتاب الطفل، وكلية الإعلام معنية بمناقشة القضايا التي تمس الطفولة في أدب الطفل، وكلية التربية معنية بالنواحي التربوية لكتاب الطفل. وتعتبر كليات التربية هي التخصص الأكثر استحواذًا على أدب الطفل والتي تسعى حثيثةً إلى ضمه إليها، نظرًا للعلاقة الوثيقة بين أدب الطفل والتربية والطفولة. ويظهر تأثير كليات التربية القوي على مفهوم أدب الطفل في الأسلوب الذي صار يتعاطى به المجتمع مع كتب الأطفال، فنرى إصرار الكثير من الآباء والأمهات على اقتناء قصص الأطفال ذات الطابع التربوي التوجيهي المباشر، والتعامل مع كتب الأطفال كأدوات معينة لهم في تربية أطفالهم وتقويم سلوكهم. وعلى الرغم من الدور الكبير الذي تلعبه كليات التربية في أدب الطفل، فإن القضايا النقدية والأدبية والثقافية في كتاب الطفل تبقى شأنٌ خاص بالناقد الأدبي في كليات العلوم الإنسانية، ولا يستطيع التربيون مناقشتها كما يفعل ناقد أدبي متخصص بأدب الطفل.
د. صباح عيسوي. 2018
قضايا ملحة في أدب الطفل. يوتيوب
مركز عبدالرحمن كانو: البحرين
إذًا فربما علينا أن نعمل بنصيحة البروفيسور (روجر سيل) وأن تكتفي كل هذه التخصصات بقول إن لديها فكرة جيدة عما يتضمنه أدب الأطفال ثم تتوقف عند هذا الحد. لكن حتى مع وجود اتفاق عام بين هذه التخصصات على وجود "أدب للأطفال"، وإجماعها على تكامل وتكاتف أدوارها في التعامل مع هذا الأدب، فإننا حتى يومنا هذا نجد صعوبة في وضع تعريف "واحد" يتفق عليه الجميع، يوضح ماهيّة هذا الأدب وماهيّة محتواه، وهو الأمر الذي جعل أدب الأطفال نوعًا أدبيًّا غنيًّا ومربكًا ومعقدًا للغاية.
فحتى عهد قريب كان ما يميز كتب الأطفال عن غيرها هو مواضيعها وقابليتها للقراءة. كبساطة الأسلوب والمحتوى، والمفردات، وطول النص والموضوع الذي يهم الأطفال ويلائمهم. إلا أن هناك الكثير من الروايات التي يمكن للأطفال قراءتها على الرغم من أنها لم تُكتب في الأصل لهم، بل كانت مخصصة للقراء البالغين عندما تم إنتاجها لأول مرة، مثل رواية روبنسون كروزو، ورحلات غوليفر، ومزرعة الحيوانات، وأن تقتل طائرًا بريئًا. الأمر الذي دفع الناقدة والباحثة في دراسات أدب الأطفال (باربرا وول) إلى التمييز بين أدب الطفل والكتابة للطفل؛ فأما التصنيف الأول "أدب الطفل" فيشمل كل ما يجذب الأطفال ويمتلكون القدرة على قراءته حتى وإن كُتب في الأصل للكبار، وأما التصنيف الثاني "الكتابة للطفل" فينحصر على الأعمال التي خُصصت في الأساس لأن يقرأها الأطفال.
.Barbara Wall. 1991
.Narrator’s Voice: The dilemma of Children’s Fiction
.Palgrave Macmillan: London
إذًا ما الذي يجعلنا قادرين على أن نقول عن كتابٍ ما إنه كتاب ملائم للأطفال، وعن كتاب آخر إنه غير ملائم لهم؟ يقول البروفيسور البريطاني (بيتر هانت)، أستاذ دراسات أدب الطفل: "عند قراءة وتقييم كتاب للأطفال، لابد من طرح سؤالين مهمين "هل هذا الكتاب جيد؟" ثم "هل هو جيد للأطفال؟" إلا أن الإجابة عن هذين السؤالين ليس بالأمر السهل إطلاقًا، فالسؤال الأول يقتضي التمييز بين "الجودة" و "القيمة" والسؤال الثاني يقتضي التمييز بين "الملاءمة" و "سهولة الوصول" وهكذا يجادل البروفيسور (بيتر هانت) بأنه، وببساطة، لا توجد معايير محددة ومتفق عليها بالإجماع للحكم على كتب الأطفال. ومع غياب القدرة على وضع حدود لأدب الطفل يصبح أدب الطفل، كنوع أدبي، منطقة مربكة دائمًا. وعليه يرى (بيتر هانت) بأن المعايير المستخدمة في تقييم أدب الأطفال في مكان ما أو مجتمع ما، هي معايير مستمدة من الأعراف الاجتماعية التي تحكم ذلك المجتمع في زمن ما. وبالتالي فإن تلك المعايير تعكس الطريقة التي يُنظر بها إلى الطفولة في ذلك المكان أو ذلك المجتمع. وفي هذا السياق تصبح "الطفولة" مفهومًا متغيرًا، وهو ما يؤكده التطور والازدهار الذي شهده تاريخ الطفولة، وتعريفها، ودراستها كمفهوم، في السنوات الأخيرة.
.Peter Hunt. 2005
.Understanding Children’s Literature. Second Edition
.Routledge: New York
ويرى البروفيسور (بيري نودلمان) أستاذ دراسات أدب الطفل، الشيء نفسه فيقول في تعريفه لأدب الطفل: "هو نوع أدبي مستقل وقابل للتحديد، له خصائص تنبثق من أفكار البالغين الدائمة حول الطفولة والتي بقيت ثابتة طوال الفترة الزمنية التي صُنع خلالها هذا الأدب. لكن هذه الأفكار متغيرة ومتناقضة بطبيعتها؛ لذلك فإن أدب الطفل متغير ومتناقض أيضًا."
.Perry Nodelman. 2008
.The Hidden Adult: Defining Children’s Literature
.JHU Press: Maryland
ولعل المتأمل في تاريخ أدب الطفل ومحطات تطوره، والأحداث التي أثرت فيه على المستوى المجتمعي والعالمي، منذ القرن الخامس عشر حتى يومنا هذا، يتيقن من حقيقة طبيعة هذا الأدب المتغيرة باستمرار. تقول الدكتورة لطيفة الفلاسي. أستاذة وباحثة في اللغة العربية، في مقال كتبته بعنوان (نظرة عامة في تاريخ أدب الأطفال): "يستطيع المرء أن يدرك أن أدب الأطفال، شأنه شأن الأدب العام، يتغيّر ويتطوّر، ويتخذ لنفسه أشكالًا تتوافق مع الزمان والمتلقى، وتستجيب لحاجات العصر والناس ورؤاهم. وربما لا يكون عدلًا ولا مقبولًا أن نحاكم أدب زمان بمعايير زمن آخر، قبله أو بعده. إنَّ معرفة السياقات التاريخيّة والاجتماعية والاقتصاديّة تساعدنا على التبصّر وفهم ما ينتج في زمن بعينه سواء كان للأطفال أو لغيرهم. إنها رحلة ممتدة، لا تتوقف، ولا ندري بعد سنوات من الآن كيف سيكون شكل كتاب الطفل، وماذا ستكون أهم موضوعاته."
د. لطيفة الفلاسي. 2019
نظرة عامة في تاريخ أدب الطفل
مدونة دار أشجار. رُمّان رُمّان.
حين قرأت هذا، تذكرت قصة الأطفال "حيث تكون الأشياء البرية" التي ألفها ورسمها الأمريكي (موريس سنداك). فقد احتاج سنداك إلى أربعة أعوام ليحصل على موافقة دار هاربر كولينز لنشر الكتاب، وحين تحقق له ذلك في عام 1963 حُظرت القصة لمدة عامين كاملين. أما هاربر كولينز فكانت مترددة بسبب ما تقدمه القصة من مفاهيم تتعارض مع الضوابط المجتمعية الخاصة بتربية الأطفال في ذلك الوقت. فبطل القصة يتمرد على والدته، فتحرمه من تناول العشاء، ليهرب بعد ذلك من المنزل، ويعيش بين وحوش مخيفة تريد التهامه، ثم يعود إلى حجرته ليجد عشاءه في انتظاره، لأن والدته تقرر عدم معاقبته، فلا يتعلم درسًا من خطئه، ولا يُقَوّم سلوكه.
حين نشرت هاربر كولنز القصة أخيرًا حدث ما كانت تخشاه، فقوبلت القصة بالرفض، وانتقدتها الأمهات، بل وهاجمها البروفيسور (برونو بتلهيم)، أحد أبرز المؤرخين وعلماء النفس، وكتب عن تأثيرها السلبي قائلًا: "ما فشل (سنداك) في فهمه هو الخوف المهول الذي تثيره هذه القصة لدى الطفل، حين يُرسل الطفل إلى الفراش دون عشاء، ومن قبل والدته التي من المفترض أن تقدم له الغِذاء والأمن أولاً وقبل كل شيء [...] إن أكثر ما يُقلق الطفل هو الهُجران. فأن يُرسل الطفل إلى الفراش وحيدًا هو الهجر الأول، ومن دون طعام هو الهجر الثاني، وهذا المزيج هو أسوأ هجر يمكن أن يهدد الطفل [...] هذه القصة ضارة لنفسية الأطفال من عمر 3 إلى 4 أعوام"
.Bruno Bettelheim, 1969
.The Care and Feeding of Monsters
Ladies Home Journal
اعترف البروفيسور (برونو بتلهيم) لاحقًا أنه لم يقرأ القصة، وأنه شكل رأيه فيها وما كتبه حولها بناءً على ما سمعه من الأمهات المعترضات عليها. بل واتضح أنه يتبنى الفكر الذي يرى أن لقصص الأطفال التي تتناول مواضيع الخوف والقلق خصائص علاجيّة لنفسيّة الأطفال، ووسيلة تساعدهم في فهم مخاوفهم والتخفيف منها. أما حظر القصة فقد رُفع بسبب مطالبة الأطفال أنفسهم بذلك، وإصرارهم على توفيرها في المكتبات العامة ومكتبات المدارس. وفي عام 1964 حصلت القصة على ميدالية كالديكوت كأكثر كتب الأطفال الأمريكية تميزًا في ذلك العام. وأشاد بها نقّاد أدب الطفل وخبراؤه، وحولت إلى أفلام ومسرحيات وترجمت إلى الكثير من اللغات، واليوم تعد قصة "حيث توجد الأشياء البرية" واحدة من أهم كتب أدب الطفل في العالم وأكثرها مبيعًا.
إن هذا التحول "المتطرف" في أمزجة القراء تجاه قصة واحدة، من الرفض التام إلى القبول التام، لهو بالضبط ما قاله البروفيسور (بيري نودلمان) حين وصف أدب الطفل بأنه أدبٌ "متغيّر ومتناقض" لأن مفهوم أدب الطفل منبثق من أفكار البالغين حول الطفولة، وهذه الأفكار "متغيرة ومتناقضة"، تمامًا كتناقض البالغين الذين قرؤا في طفولتهم قصصًا بموضوعات حزينة ومخيفة وعنيفة، وأحبوها، لكنهم حين كبروا قرروا أنها لا تلائم أطفالهم.
في مقابلة تلفزيونية عام 1991 سُئل (موريس سنداك) عن الطريقة التي يتعامل بها مع صناعة كتب الأطفال وإن كان ينتمي إلى المعسكر الذي يرى الطفولة بطريقة مثالية ولطيفة وبريئة للغاية، أو المعسكر الذي يرى الطفولة بطريقة فلسفية مختلفة، فأجاب قائلًا: "لا يجب أن تكون الإجابة إما هذا أو ذاك، لأنها الطريقتان معًا. بالطبع هناك لحظات رائعة في مرحلة الطفولة تتسم باللطف والوداعة، لكن سيكون من الحماقة الادعاء بعدم وجود جوانب مظلمة وقاسية خاصة وأننا جميعًا مررنا بها. وعادة ما أفكر إنها لمعجزة حقًا أننا ننمو ونكبر ونصير راشدين، وأنا أعني ما أقوله. لأن الحياة قاسية، قاسية على الأطفال، لكنهم يمتلكون الصلابة للاستمتاع بها. ففي أغلب مراحل الطفولة يواجه الأطفال أشياء جديدة لا يكون لديهم خبرة فيها أو معرفة بها أو إدراك لها، لكنهم مضطرون لاستكشافها بأنفسهم. المرور في هذه التجارب يتطلب الكثير من البطولة والشجاعة. وهذا في رأيي يجعل الأطفال خارقين فعلًا، لذا فأي عمل أقوم به من أجلهم لابد أن يعكس معرفتي وإقراري بحقيقتهم هذه وبأنهم يخوضون هذا. أنا أدخل إلى عالمهم بإدراكٍ تام أني كنت يومًا ما في عالم مثل عالمهم، وبإستحضار ذكرياتي عن ذلك العالم، واليقين بأن الشيء الوحيد الذي أستطيع منحهم إياه هو ما أعتقد أنه الصدق، وما أعتقد أنه الحقيقة عن الحياة. هذا ما تستطيع أن تمنحهم إياه. لا يهم مهارتك في الرسم، هم لا يكترثون لمهارتك في الرسم، هم حتى لا يكترثون لمهارتك في الكتابة، فهم متعطشون لقراءة أي شيء والنظر إلى أي شيء، هم معنيون بمدى صدقك وصراحتك عن الحياة."
Maurice Sendak. 1991
Sugar Plums and Vinegar: Childhood
UW Video. YouTube
حين كان كاتب الأطفال الأمريكي (مات ديلابينا) يعمل مع الرسام (لورين لونج) في مراجعة لوحات كتابه "الحب" بَلَغَهُ أن مسؤولًا مهمًا يلوح بتعطيل نشر كتابه إن لم يُلطف من حدة لوحة من لوحات الكتاب. في تلك اللوحة المقصودة، يظهر طفل صغير متكوّر مع كلبه أسفل البيانو، بينما يتشاجر والداه في غرفة المعيشة بالقرب منه. الأم تغطي وجهها بكفيها كأنها تبكي، والأب يسير مبتعدًا عنها. في الصورة يظهر أيضًا كوب زجاجي به مكعبات من الثلج فوق البيانو. كانت الملاحظات التي تلقاها الناشر من ذلك المسؤول تفيد بأن هذا المشهد سيكون ثقيلًا على الأطفال. وقد يزعج الآباء الذين سيقتنون الكتاب ويجعلهم غير مرتاحين لقراءته مع أطفالهم.
يقول مات: "لقد دفعتني هذه الأخبار المحبطة إلى التساؤل، ربما لأول مرة في مسيرتي المهنية، عن الهدف من نصوص كتبي المصوّرة. ما الذي كنت أحاول تحقيقه بهذه القصص؟ ما الأفكار والمشاعر التي أتمنى أن أثيرها عند الأطفال؟ لقد بدأت مشروع هذا الكتاب بالتحديد ببراءة تامة. كنت محبطًا من الانقسام الحاصل في بلدي، فشرعت بكتابة قصيدة عن الحب. قصيدة أستطيع مشاركتها مع طفلتي أنا، وكل طفل قابلته في كل ولاية زرتها، ديمقراطية كانت أو جمهورية. لكنني حين قرأت المسودة الأولى من القصيدة، شعرت بأن شيئًا ما فيها لم يكن صادقًا. كانت القصيدة مطمئنة وحتى مبهجة، لكنني أخفقت في الإعتراف بمفهوم المحنة التي يختبرها الأطفال. فأعدت الكتابة من جديد. بعد أسابيع قليلة من مراجعة القصيدة، تلقيت أنا وزوجتي بعض الأخبار السيئة، ورأت ابنتي زوجتي تبكي علانية لأول مرة. هز هذا عالمها الصغير وبدأت تبكي وتتشبث بساق زوجتي، تتوسل لمعرفة ما كان يحدث. هدأناها وتحدثنا معها، وفي النهاية جهزناها للنوم. وبينما كانت زوجتي تقرأ لها قصة، تفحصت وجه ابنتي الملطخ بالدموع، وشعرت بأنها فقدت جزءًا بسيطًا من براءتها في ذلك اليوم. لكن ربما هذه اللحظات الصغيرة من الحزن ضرورية لنمو الطفل بل وبنفس أهمية لحظات الفرح بالضبط. وربما بدلاً من محاولة حماية أطفالنا بقلق من كل الأذى والحزن البسيط، فإن مهمتنا هي ببساطة دعمهم خلال تجارب مثل هذه. أن نتحدث معهم. أن نمسك بهم. وربما وجدت هذه الفكرة نفسها في نص القصة."
Matt de la Peña. 2018
.Why We Shouldn’t Shield Children from Darkness
بالطبع نُشر الكتاب باللوحة دون تغيير، فقد أصر (مات ديلابينا) ورسام الكتاب (لورين لونج) على إبقائها كما هي في الكتاب. بالنسبة للنص فقد كانت جزءًا رئيسيًّا في السرد، لكنها كانت أيضًا تجسد نموذجًا للمعاناة التي قد يمر بها بعض الأطفال في منازلهم، وهؤلاء يحتاجون إلى أن يروا في الكتب التي يقرؤونها مشاهد تشبه ما يمرون ويشعرون به لكنهم لا يستطيعون التحدث عنه. أما بالنسبة للأطفال الذين لم يختبروا يومًا هذا النوع من الحزن أو الخوف، فلا يوجد مكان أكثر ملاءمة و أمان من القصص ليستكشفوا هذه المشاعر المعقدة فيها، وبينما هم جالسون في أحضان عائلاتهم.
حين أقرأ تجارب ملهمة مثل هذه، أتذكر الكثير من كتابِ ورسامي أدب الطفل في عالمنا العربي الذين أعرفهم وأعرف أنهم يرون الطفولة كما يراها (موريس سنداك)، ويمرون بمواقف مماثلة للموقف الذي مر به (مات ديلابينا) ورسام كتابه (لورين لونج)، ويسمعون كلام الراشدين عن كتبهم وكم هي "مغمورة في الحزن" أو "مرعبة للأطفال" أو "محفزة على العنف". أتذكر نفسي أيضًا، والمرات الكثيرة التي قرأت فيها تعليقات مماثلة حول كتبي، وملاحظات باعة الكتب التي يكررونها على مسامعي كلما سألتهم عن مستوى الإقبال على إصداراتي فيجيبون بسرعة "الناس تحب الفرفشة يا دكتورة". أتذكر الرسام الذي كلما رآني سلم علي بحرارة ثم قال لي: "أتمنى من كل قلبي أن أرسم لك كتابًا، لكن ليكن خفيف الدم هذه المرة". أنا أتذكر كل هذا وأبتسم، تمامًا كما أبتسم حين أقرأ الكتب للأطفال وأرى وجووهم المضيئة وعيونهم اللامعة، وأجسادهم الصغيرة متكورة، وهم ينصتون للقصة، وحين تنتهي الحكاية يصفقون بحماس ويصرخون عاليًّا "مِسْ، مِسْ. تعالي كل يوم."
قَرَأَ بَعضُنا خَبَرَ وفاةِ أنتونيلا، الطّفلةِ الإيطاليةِ البالغةِ من العُمْرِ عَشْرَ سنواتٍ، التي لاقتْ حَتْفَها بِسببِ مشارَكَتِها في لُعْبَةِ تَحَدٍّ، على تطبيقِ تيك توك، تُعرَفُ باسمِ "الوشاح"، وَتَقْضي بأنْ يَمْتَنِعَ الأطفالُ عن التّنفُّسِ إلى أنْ يَفْقُدوا وَعْيَهم، حتى يعيشوا تَجْرِبَةَ الشّعورِ بِمشاعِرَ قويّةٍ جدًّا. ومعَ أنّ الخَبَرَ الذي تَداوَلَتْه مُعْظَمُ المواقِعِ الإخْبارِيّةِ لا يشيرُ إلى هُوِيّةِ الطّرفِ الآخَرِ الذي شاركَ أَنْتونيلا لُعْبَةَ التحدي هذه، إلا أنّ الخَبَرَ لَفَتَ انْتباهيَ كثيرًا، لا بِسَببِ تَطبيقِ تيك توك، وعُزْلَةِ الأطفالِ في أيامِنا هذه داخلَ عوالِمِ التّطبيقاتِ والألعابِ، لكنه لفتَ نظري بسببِ كلمةٍ واحدةٍ فقط "تحدٍّ".
أخذتني هذه الكلمة إلى ذكرى بعيدة جدًّا، في أول تجربة تدريس لي في المدارس، حين خرجت رِفقةَ زميلة لي في رحلة ترفيهية، مع مجموعة من طالبات الصف الثامن، إلى مزرعة زميلتي في منطقة العوير، حيث انقلبت الرحلة الترفيهية إلى ما يشبه المأساة، بسبب تحدٍّ وقع بين طالبتين، بأن تشرب إحداهما زجاجة الصلصة الحارّة "الدقّوس" كاملة، مما أدى إلى إصابتها بآلام شديدة في المعدة، اضطررنا على إثرها إلى نقلها إلى المستشفى.
لا يخفى على أحد أنّ ألعاب التحدّي بين الأطفال واليافعين منتشرة منذ زمن طويل، وأنّها تضفي على أوقاتهم وحياتهم لونًا من الإثارة والمرح، وتمنحهم إحساسًا بالقوّة والثقة، وشعورًا بالقبول والانتماء. لكنّ هذه الألعاب قد تنقلب في كثير من الأحيان إلى مشكلات ومآسٍ يدفع الطفل أو المراهق وأسرته ثمنًا غاليًا لها.
تقع ألعاب التحدي التي تحدث عادة بين الأطفال والمراهقين ضمن ما يعرف بمصطلح "ضغط الأقران"، الذي يمكن تعريفه بأنه "التأثير المباشر على الطفل أو المراهق من قبل أقرانه، الذي يدفعه إلى تغيير قيمه أو معتقداته أو سلوكياته لتتوافق مع قيم المجموعة أو معتقداتها أو سلوكياتها، لكي يثبت لهم قدرته أو قوته، فيتم قبوله بينهم". وضغط الأقران قد يكون سلبيًّا، وقد يكون إيجابيًّا بحسب طبيعة المجموعة الضاغطة وتوجهاتها.
وتشير كثير من الدراسات إلى أنّ الأطفال الأكثر عرضة لضغط الأقران، هم الذين تكون أعمارهم بين 11 إلى 16 سنة؛ فالطفل في هذه المرحلة يبحث عن الانتماء، والقبول بين أقرانه، ويكون تأثير الأقران في هذه المرحلة أقوى بكثير من المرحلة التي قبلها والتي بعدها، ويصنّف ضغط الأقران على أنه سبب رئيس، ومساهم قوي في بدء استخدام المخدرات بين المراهقين، خاصة في ظل غياب التواصل الأسري، أو قلّته.
وقد حاول عالم النفس الاجتماعي ويندي ترينور أن يقدّم تفسيرًا لعملية "ضغط الأقران" سمّاه بــ "تأثير تحوّل الهوية"؛ فبيّنَ أنّ ضغط الأقران يعمل على النحو التالي: يواجه المراهق تهديدًا خارجيًّا بعدم القبول من المجموعة بسبب عدم التوافق معها في فكرة أو سلوك ما، فيلجأ إلى الإقدام على ما يجعله مقبولًا من قبل أفراد المجموعة، وبمجرد ما يتم ذلك ينتفي "التهديد الخارجي"، ويبرز "الصراع الداخلي"، لأن المراهق يكون قد انتهك قيمة من قيمه أو معتقَدًا من معتقداته. وللتخلص من هذا الصراع قد يغيّر المراهق معتقده أو أفكاره ليريح نفسه، وينخرط تمامًا مع المجموعة، أو قد يقرر هجر المجموعة تمامًا متمسكًا بالتوافق مع نفسه ومبادئه. لكن الذي يحصل أنّ معظم المراهقين يستسلمون لضغط المجموعة، خاصّة إذا استمرّ هذا الضغط، وعبّر عن نفسه بصور شتّى كالتحدي والسخرية والاستهزاء.
وليس شرطًا أن يكون ضغط الأقران مباشرًا، خاصة في عالمنا اليوم، الذي تتاح فيه الفرصة للأطفال والمراهقين لمتابعة مئات الحسابات العربية والغربية، لمن هم في مثل أعمارهم، أو لمن هم أكبر منهم. فهذه المتابعة في حدّ ذاتها تشكّل ضغطًا اجتماعيًّا ونفسيًّا وعاطفيًّا غير مباشر على الطفل أو المراهق، لأنّها تضع له معايير يقيّم بها نفسه قياسًا على هؤلاء الذين يتابعهم، ويعجب بنمط حياتهم، وطريقتهم في اللباس والكلام وغيره.
لن يستطيع الأهل أن يغلقوا على أبنائهم الأبواب، ولا أن يمنعوا هذا السيل الإلكتروني الجارف من أن يصل إليهم بطريقة أو بأخرى، ولن يكون هذا السبيل حكيمًا بأي حال من الأحوال. لكنهم يستطيعون أن يفتحوا الأبواب بينهم وبين أبنائهم من خلال الحوار، وتبادل الأفكار، والجلسات العائلية المشتركة. ويستطيعون أن يكونوا ملاذًا آمنًا دائًما لأبنائهم. وقد يكون مفيدًا للأبناء أن يتحدث معهم الآباء عن مفهوم "ضغط الأقران"، وألعاب التحدّي، ويشرحوا لهم أنّ السعي إلى تقدير الآخرين لنا، وإعجابهم بنا طبيعة بشرية، لكنه يجب ألا يكون على حساب ما نؤمن به نحن، ولا على حساب رؤيتنا للصواب والخطأ التي نستمد منها القوّة الحقيقية لقراراتنا وتصرفاتنا.
إنّ الأسرة هي المسؤول الأول عن حماية الأطفال، وتوعيتهم، ولعلّنا لن نستطيع أن نخترق الحجب إلى عوالم الصغار في هذا الوقت الصعب إذا لم نصغ لهم بقلوب مفتوحة، ونتقبل اختلافهم عنّا، ونحاول أن نلتقي بهم دائمًا في المنطقة الآمنة التي تحترم كيانهم، وتعطف على ضعفهم، وتتفهم أفكارهم ورغباتهم.
]]>
تعاني الأجيال الشّعرية العربية الجديدة من ضبابيّة المشهد الشّعري، ففي العِقدين الأخيرين اختلط الشّعر باللاشعر، وأصبحنا أمام طوفان هائج من النّصوص المنفلتة، ليس من أفقها الجمالي فقط، ولكن من اللغة نفسها التي تُكتَب بها هذه النّصوص.
في ظلّ التّحوّلات الكبيرة التي باتت تشهدها عملية النّشر، اختفت المنابر الورقية، التي كانت تنشر الشعر فيما مضى، وذلك مقابل المواقع الإلكترونية وصفحات التواصل الاجتماعي التي برزت في السنوات القليلة الماضية، وأخذت على عاتقها نشر أعداد هائلة ومتفاوتة المستويات من القصائد. ثمّة مجلات ورقية مثل: الآداب، مواقف، الكرمل، الأقلام، والموقف الأدبي، كان لها دور كبير بالتعريف بنتاج الشعراء العرب. كانت هناك معايير فنيّة تحتكم إليها تلك المجلات عندما تنشر النّصوص، ومن هنا لم يكن الأمر سهلاً على شاعر ضعيف الموهبة مثلاً أن ينشر في هذه المجلّة أو تلك. حتى الشعراء الجدد من أصحاب المواهب الجيدة، فقد كانوا بحاجة ماسّة إلى إثبات جدارتهم أمام تلك الأسماء الشعرية الكبيرة التي شاعت في ارجاء العالم العربي. الآن ومن خلال صفحات الفيسبوك مثلاً أصبح بإمكان أيّ شخص أن ينشر النّصّ الذي يريده، سواء كان قصيدة جيدة أو رديئة أو لا علاقة له بالشعر. بالمقابل فإننا نجد أسماء شعرية مهمّة، لكنّها وبسبب علاقتها الفاترة بالإنترنت، وبالفيسبوك على وجه الخصوص، نجد أنها غائبة عن المشهد الشّعري. أتذكّر هنا الشّاعر الكبير الراحل محمود درويش، فهو لم تكن له صفحة خاصّة به في الفيسبوك، وظلّ حتى وفاته يفتقد لهذه الصفحة.
مسألة أخرى لا بدّ من الإشارة إليها، تتعلّق بغياب النّقد عن أي دور له في تقييم النّصوص. وعلى الرغم من وجود هذا الغياب تاريخياً، إلا أنّه لم يكن بمثل هذه الصورة التي هو عليها الآن. الواقع أنّ النّقد استقال من مهمّته. وهكذا يزداد المشهد ضبابيّةً أمام الشاعر الجديد، فهو يكتب ما يشاء دون أن يقول له أحد شيئاً عمّا يكتبه.
نضيف إلى ما ذكرناه الدّور المربك الذي تقوم به المناهج المدرسية والجامعيّة العربية على حدٍّ سواء، في تعريف الطلّبة بالشعر. لنعترف أنّ النّصوص التي تقدّمها هذه المناهج، هي نصوص محنّطة، يقصدُ من وَضَعَها أن يُعَلّم الطلبة من خلالها الأخلاق والحكمة، وهي تصوّرات لا تكاد تمتّ إلى الشعر بصلة. من جهة أخرى فإنّ النصوص المطروحة في غالبيتها العظمى هي نصوص مقتطعة من شعر التراث، أمّا شعر الحداثة العربية، والذي تكرّس منذ أواخر الأربعينيّات حتى الآن، فهو لا يحظى سوى بهوامش قليلة في هذه المناهج، هوامش تكتفي عادةً بالتّعريف بشعر الروّاد، وتغفل عن كلّ شعر سواه.
بسبب ذلك كلّه يرتبك الشعراء الجدد، ويتشتّت فهمهم لطبيعة الشّعر، وكالعادة تنقسم صفوفهم، ويتوزّعون على الفئات الثلاث المعروفة: قصيدة النّثر، وتضم النسبة الأكبر منهم. قصيدة التفعيلة، والقصيدة العمودية. ومن المؤسف أنّ كل فئة سوف تتخندق في موقفها باعتباره الموقف الأهم الذي يعبّر عن حقيقة الشعر، كما أنها لن تدّخر جهداً في مديح منتسبيها، وكيل الاتهامات لشعراء الفئتين الأخريين. وقد اتضح ذلك في عدد من الملتقيات الشعرية العربية التي أقيمت مؤخّراً، فبعض هذه الملتقيات قام بإقصاء شعراء قصيدة النثر عن أنشطته، وبالمقابل فثمّة مؤتمرات خاصّة بقصيدة النثر، عُقِدَت في القاهرة وبيروت، منعت أي مشاركة لمن يكتبون القصيدة الموزونة، سواء كانت قصيدة عمودية أو قصيدة تفعيلة.
ما الحل إذن؟ وكيف يمكن معالجة أمر هذه البلبلة التي تعكّر مرآة الشّعر؟
من المؤكّد أنّ المشاكل التي تحدّثنا عنها هي مشاكل كبيرة، ليست مرتبطة بالشعر وحده، بقدر ما هي مرتبطة بالثقافة العربية، وبالأزمة المعاصرة التي تمرّ بها هذه الثقافة. مثل هذه المشاكل لا يُمكن حلّها آنيّاً، غير أنّ هناك بعض المقترحات، التي ربّما تشكّل نوعاً من الحلّ.
يخطر في بالي الآن معهد غوركي، وهو معهد أدبي معروف في موسكو. أنشئ في العام 1933، بمبادرة من الكاتب الروسي مكسيم غوركي. وقد أخذ المعهد على عاتقه العناية بالكتّاب والمبدعين الجدد، من داخل الاتحاد السوفيتي ومن خارجه، وقد تخرّج منه عدد كبير منهم، وأصبحوا كتّاباً لامعين فيما بعد. لماذا لا يتم تأسيس معاهد أو مؤسسات مشابهة في العالم العربي، تُعنى بالشعر تحديداً وبالكتابة الإبداعية بشكل عام، على أن يكون طاقم المحاضرين فيها من كبار الشعراء والنّقّاد؟ طبعاً مثل هذه المعاهد لا يمكن لها أن تصنع موهبة، ولكن يمكن لها أن تأخذ بيد الشاعر الموهوب، فتوجّهه، وتطلق مخيّلته للكتابة.
ربّما كان لإنشاء اتّحادات الكتّاب العربية، تأثير إيجابي في هذا المجال. ولكنّه كان تأثيراً محدوداً، إذ إنّ جلّ عملها كان منصبّاً على الندوات الأدبية والأمسيات الشعرية. في العقود الثلاثة الأخيرة أنشئت مجموعة من بيوت الشّعر في عدد من الدول العربية، وقد أصبحت تقوم بين فترة وأخرى بتقديم ندوات تعليمية خاصّة بالشّعر. وفي هذا المجال لا بدّ من الإشادة بالجهود الطيبة التي يقوم بها بيت الشّعر في الشارقة، حيث يقوم بعقد دورات تثقيفية متميّزة بكتابة الشّعر وتذوّق النّصّ الشّعري. هناك أيضاً أكاديمية الشّعر في أبوظبي، والتي أخذت على عاتقها تقديم مساقات خاصّة من الندوات والدّورات التي تعنى بأصحاب المواهب الشعرية والمهتميّن بالشعر، وقد قطعت هذه الأكاديمية منذ بداية تأسيسها في العام 2007، أشواطاً جميلة على طريق خلق جيل مثقّف بالشعر.
بقي هنا أن نتحدّث عن الجامعات في العالم العربي، وعن الدّور الكبير الذي يمكن أن تقوم به في سبيل الأخذ بأيدي الطلبة من أصحاب المواهب الشّعرية، ليتمكّنوا من بلورة فهمهم للنّصّ الشعري من جهة، ولأسرار الكتابة الشّعرية من جهة أخرى، وذلك من خلال إنشاء أقسام خاصّة بهؤلاء الطلبة الموهوبين، حيث يمكن أن يقوم على تدريسهم شعراء معروفون ومكرّسون في الأوساط الشّعرية العربية.
]]>منذ كنا صغاراً كانت الحكاية الشعبية تشغلنا، تشدُّنا إليها بقوة سحرها وجمالها، وبما تثيره في دواخلنا من خيالات ومشاهد جمالية ممتعة.
كنا نستمع إلى جدتي، وهي تقص علينا العديد من الحكايات التي تحفظها، فهي قاصة بارعة في هذا المجال، تعرف كيف تجعلنا نستمع إليها بكل حواسنا، فنجلس حولها، وقد عمَّ الهدوء في البيت، وتركنا كل ما يشغلنا متفرِّغين لسحر الحكاية.
كانت جدتي تعرف كيف تجذبنا إلى الحكايات بأسلوبها الرائع في السرد، فتمتحن بذلك قدرتنا على الانتباه والتركيز والاستيعاب، وتردُّ على أسئلتنا التي تواكب الصور الغريبة، وخاصة فيما يتعلَّق بالأحداث غير المألوفة بالنسة لنا. فعلى الرغم من أننا كنا نطلب منها إعادة الحكاية أكثر من مرَّة، إلا أنها كانت تعيدها بطريقة مختلفة في كلّ مرة، وتضيف إليها نكهة من حلاوة سردها، إضافة إلى أسئلتها المتجددة أثناء سردها الحكاية. فهي تعرف مواطن القيم والأخلاق والعبر التي تتضمّنها، وتعرف قدرتها على تحريك خيالنا ومدى تأثرنا بها، وخاصة عندما تجذبنا إلى النوم مبكِّرًا، من أجل الاستمتاع بإكمال رسم الحكاية بريشة خيالنا.
في فترة معينة من حياة جدتي، وكنا ما نزال صغاراً، بدأت تلبس زيَّاً قروياً، تلفُّ حول رأسها قطعة قماش سوداء مطرَّزة بالخرز وحبات السيلان يُقال لها (قزيَّة) وهي قماش من حرير دود القزِّ الطبيعي. فتزيدها طولاً على طول، وهذا ما جعلني أخاف منها، فأختبئ لحظة قدومها، علمًا أنها كانت تسأل فور دخولها البيت، وتقول: أعرف أنها تخاف من (القزية).
وفي إحدى المرَّات حين علمت بقدومها، اختبأت في الخزانة، ولما دخلت جدتي الغرفة سألت عني، وكانت تعرف أين اختبأت، فقد أخبرتها أمي بمكاني. نادت جدتي على إخوتي وقالت تعالوا لنحكي حكاية. فجدتي تعرف نقطة ضعفي، عندها فتحت باب الخزانة على مهل، فنادتني، وقد خلعت (القزيَّة) قائلة: كرامة لك لن ألبسها بعد الآن أمامك. وفعلاً صدقت جدتي بوعدها، وبعد سنوات عدة سألتها لماذا لا تلبسين (القزيَّة) لقد كبرت، وما عدت أخاف منها؟
ضحكت قائلة: لم أعد أحب لبسها، من بعد ما تأكَّد خوفك منها.
لم نكن نتوقَّع أن أحلامنا التي غذَّتها الحكايات الشعبية قد تتحقَّق يومًا ما، فها هو الجوال يقوم مقام المرآة السحرية، والطائرة تقوم مكان بساط الريح، والإنترنت قد سيطر بإمكانياته المتنوِّعة على كل خيال.
علمتنا الحكاية مواطن الاختلاف بين الخير والشر، والأخلاق الحسنة والأخلاق السيئة، كما علمتنا حب المغامرة، وكيف نعمل خيالنا في رسم أحلام اليقظة ممتعة ورائعة. كما علمتنا كيف ننظر إلى ما يعترينا من مشاكل ونحلُّها بالحكمة والتعقل والصبر.
ونحن نقص الحكايات على الأطفال الذين حولنا، نكتشف أن الحكاية ما زال بريقها يسطع في عيون الصغار، فيضفي على وجوههم البهجة والسرور، حتى إن بعضهم يلحُّون على سماعها أكثر من مرَّة، كما كان يحدث معي شخصيًّا. وهم الآن بأمس الحاجة إلى تلك الحكايات التي لم يمسها الغش أو التزوير، ولم تنحرف عن مسارها الجمالي، ولكن أخطر أمر يصيبها هو الابتعاد عنها. من هنا وجب علينا العمل على توثيقها قدر الإمكان، وإعادة نشرها كتابيًّا لأننا بحاجة ماسة إليها في هذه الأوقات التي أخذ فيها التقدم التكنولوجي عقول الأطفال نحو الخطورة التي لا يدركها سوى من يتتبع مساوئها في أذهانهم وتصرفاتهم أيضًا.
منذ عدَّة سنوات خلت، حدث، أن جدَّتي قد أطالت زيارتها عندنا، فاستغللت هذه الفرصة، فقد فكَّرت في تأليف كتاب أجمع فيه كل الحكايات الشعبية التي حكتها لنا، ونحن صغار. وفعلاً استجابت جدَّتي للفكرة بكل أريحيَّة، وتفاجأت من صفاء ذاكرتها، فهي ماتزال تروي الحكايات وكما كانت ترويها لنا حين كنا صغاراً.
جمعت الحكايات، وكأنني جمعت كنوز الدنيا، والكتاب ما زال لديَّ ينتظر النشر. فقد علمت أنه يجب عليَّ إعداد الكتاب بلهجة سكان المنطقة، وقد كتبته باللغة العربية الفصيحة وهذا الأمر صعب بالنسبة لي جدًّا، صحيح أنني أعرف اللهجة، ولكنني لا أتقنها بشكل جيِّد، هذا أولاً، وثانياً: عندما أكتب الحكاية باللهجة المحليَّة مبتعدة عن اللغة الفصحى أشعر بأن ملكة الإبداع لدي تتأثر، وأنني غير قادرة على الكتابة. وإليكم إحدى الحكايات التي سمعتها من جدَّتي.
حكاية أم صفوة
كان يا ما كان في قديم الزمان، كان هناك ثلاث بنات، الصغيرة منهن تقوم بأعمال المنزل، وخدمة والدتها المسنة، والأخريان كانتا تقضيان الوقت بالكسل، والوقوف أمام المرآة، والخروج في نزهات طويلة، دون أن تهتمَّا بشؤون الأم المريضة، أو بأعمال المنزل.
لم تتأخَّر الصغيرة عن أداء واجباتها المنزلية، من كنس البيت، وتحضير الطعام، وتنظيف الأواني، وجلب الماء من الينبوع، وما إلى ذلك، على الرغم من تجاهل أختيها لها، مما جعل الأم تخصُّها بمحبتها، وتدعو لها بالتوفيق والحظ الطيِّب. وكان أشدُّ ما يحزنها أن أختيها كانتا تطلقان عليها لقب (أم صفوة) لأنها كانت دائماً ملوَّثة برماد الموقد والتنور.
عندما شعرت الأم بدنوّ أجلها، قدَّمت لابنتها الصغيرة حبَّة جوز، وأوصتها بأن تحتفظ بها، فربما تحتاجها يومًا ما.
ماتت الأم، وما زالت الصغيرة مواظبة على خدمة شقيقتيها، والعمل على إرضائهما،على الرغم من جحودهما وتأففهما.
وحدث ذات مرَّة أن السلطان دعا كل أهل المملكة إلى عرس ولده. فتزيَّنت الأختان، ولبستا أجمل ما لديهما من الثياب، ثم قالت إحداهما لأختها الصغيرة باستهزاء:
أم صفوة! ألا تريدين الذهاب معنا إلى العرس؟
قالت الفتاة بحزن: لا، أنا لا أحبُّ الأعراس.
فذهبتا، وبقيت الفتاة في المنزل وحيدة حزينة، تفكِّر بوضعها. قالت في نفسها: لماذا لا أستغِّل فرصة غياب شقيقتي، وأتفقَّد حبَّة الجوز؟
أسرعت إلى صندوقها الذي يحتوي ثيابها البالية، وفتحته بلهفة، أمسكت حبَّة الجوز، ويداها ترتجفان، وما إن مسحتها قليلاً، حتى انفتحت ببطء، ورأت في داخلها خاتمًا رائعًا، فلبسته، وأخذت تتحسَّسه بدهشة، فإذا بدخان كثيف يخرج منه، ويملأجوَّ الغرفة، ويظهر فيه عفريت جميل بثياب بهيَّة، انحنى العفريت أمام الفتاة قائلاً:
(شبيكِ لبيكِ عبدكِ بين يديك، اطلبي، وتمنِّي).
خافت الفتاة، ثم تماسكت مندهشة مبتسمة، وهي تقول:
أريد حصانًا، وسيفًا، وفستانًا، وحذاء، وأدوات زينة: عقدًا، وحلقًا، وأساور، وخواتم... على أن تكون كل ألوانها بيضاء.
وبغمضة عين، كان كل ما طلبته الفتاة بين يديها.
استحمَّت بسرعة، ولبست ملابسها، وتزيَّنت، وامتطت ظهر الحصان، ثم انطلقت إلى العرس.
وصلت أخيرًا، ودخلت القصر، فلفتت أنظار الحضور بجمالها وأناقتها، ولم يعرفها أحد. سارت بين المدعوين بزهو، رقصت، غنَّت، ثم نثرت على الناس حفنة من حبَّات اللؤلؤ والمرجان، وخرجت مسرعة دون أن ينتبه إليها أحد، امتطت حصانها، وعادت إلى البيت. على عجل، نزعت ملابسها، وأعادت الخاتم إلى حبَّة الجوز، ثم وضعتها في صندوقها القديم.
وصلت الأختان تضحكان، وقد غمرت السعادة وجهيهما، اقتربتا من الفتاة محاولتين إغاظتها والكذب عليها.
قالت إحداهما: لماذا لم تذهبي معنا؟ لقد حضر العرس فارس جميل، رقص رقصة رائعة، وغنَّى أغنيات جميلة، ثم نثر حفنة من حبَّات اللؤلؤ والمرجان على الحاضرين.
قالت الأخرى: لقد كانت سهرة رائعة زيَّنها ذلك الفارس الذي شغف قلوب الفتيات.
قالت الفتاة: هنيئاً لكما، أنا لا أحبُّ الأعراس.
في اليوم التالي لبست الأختان، وتزيَّنتا، وذهبتا إلى العرس. أسرعت الفتاة إلى حبَّة الجوز، أمسكت بها، وفتحتها، أخرجت الخاتم، فلبسته. فجأة، ظهر العفريت الجميل، وهو يقول: (شبيكِ لبيكِ عبدكِ بين يديك، اطلبي، وتمنِّي).
طلبت منه أن يحضر لها ما أحضره بالأمس، لكن بلون أخضر.
بلحظات، تحقَّق ما طلبت. استحمَّت، امتطت الحصان، وذهبت إلى العرس، غنَّت، ورقصت، ونثرت حفنة من اللؤلؤ والمرجان على الحاضرين، وعادت إلى البيت مسرعة، وضعت الخاتم في قلب حبَّة الجوز، ثم أخفت الحبَّة في صندوقها بين ثيابها القديمة.
حضرت الأختان، قصَّتا عليها ما قام به الفارس الذي لم يعرف أحد من هو، ومن أين جاء؟
في اليوم الثالث، وكالعادة بقيت الفتاة وحيدة، وبعد أن ذهبت أختاها إلى العرس، استدعت العفريت من الخاتم، وأمرته بإحضار ما طلبته سابقاً، ولكن بلون أحمر.
انطلقت إلى العرس، وقامت بكل ما فعلته في الليلتين السابقتين.
في طريق عودتها إلى البيت، وهي تقطع ضفَّة النهر، ودون أن تشعر، سقطت من قدمها فردة حذائها.
في صباح اليوم التالي، وعندما كان الأمير يسير على ضفَّة النهر، وجد فردة الحذاء الأحمر، عرف أنها للفتاة الجميلة التي شغفت قلبه، وقد كانت تأتي إلى العرس كل يوم بثياب رائعة، وتختفي فجأة.
حمل الفردة إلى القصر، وطلب من أمه أن تبحث عن صاحبة الحذاء، فمن تلبس الفردة، وتأتي على قياس قدمها، فسوف يتزوجها.
طلبت الأم من النسوة أن يخرجن إلى البيوت للبحث عن صاحبة الحذاء التي شغفت قلب الأمير.
لم يبق بيت في المملكة فقيراً كان أم غنيًّا إلا وزارته النسوة حتى فقدن الأمل في العثور على صاحبة الحذاء.
تضايق الأمير، حزن بسبب فشل النسوة في إيجاد الفتاة التي سحره جمالها وأناقتها، وملامح الطيبة في وجهها.
قال لأمه: أمتأكِّدة من أن النسوة تفقَّدن بيوت البلدة كلها؟
قالت الأم: نعم.
قال: وهل ذهبن إلى بيوت الضفة الأخرى من النهر؟
قالت الأم: نعم باستثناء بيت متواضع، بيت أم صفوة، تبدو عليه ملامح الفقر، فمن المستحيل أن تكون صاحبة الحذاء من أصحابه.
تنهَّد الأمير قائلاً: اطلبي من النسوة أن يذهبن إلى هناك حالاً.
على عجل، حملت النسوة فردة الحذاء، وخرجن إلى البيت الذي تسكنه الفتيات الثلاث.
استقبلت الفتاتان الزائرات بترحاب شديد، قاستا فردة الحذاء، فلم تنطبق على قدم أي منهما.
سألت إحدى النسوة أليس لكما أخت ثالثة؟
قالت الكبرى: نعم، هي الآن في الخارج تجمع الحطب، لا تتعبي نفسك، فلن تأتي الفردة على قياس قدمها أبدًا.
قالت الوسطى: نعم، فهي قبيحة، وقدماها كبيرتان.
قالت المرأة: على كل حال، سننتظرها حتى تعود.
لم يدم انتظارهن طويلاً، حتى دخلت الفتاة حاملة حزمة من الحطب فوق رأسها، وضعتها جانبًا، ورحَّبت بالضيوف.
طلبت منها إحدى النسوة أن تقيس فردة الحذاء. وقد عرفتها الفتاة منذ أن نظرت إليها. أمسكت بالفردة لبستها، فجاءت على قياس قدمها تمامًا.
زفَّ الخبر إلى الأمير، فحضر مع أمه، وطلب الزواج من الفتاة أمام الأختين المغرورتين. فظهر الحسد والغيظ على وجهيهما، فكيف لأم صفوة أن يكون لها هذا الحظُّ الطيِّب؟!
أقيم عرس للأمير والفتاة سبعة أيام بلياليها، لا أحد يأكل أو يشرب إلا من عرس ابن السلطان.
هذه الحكاية بالتحديد، كان لها أثر بالغ في نفسي، والآن، وأنا أقصها على الصغار ألمس التأثير والرغبة ذاتهما في سماعها أكثر من مرَّة، والتجربة خير برهان.
لذلك أرى أهمية توثيق هذه الكنوز الثمينة، لأنها متناقلة في أكثر الأحيان شفويًا، وهذا يعرضها للتلاشي والنسيان، وخاصة أن جدَّات هذه الأيام منشغلات بالانترنت، وكذلك الأطفال، فلن يخطر ببال أحدهم أن يطلب سماع أي حكاية في ظل التقدم التكنولوجي المتسارع.
]]>تُعتبَر الغنائيّة واحدةً من أهم السّمات الشعرية، التي طبعت القصيدة العربية طوال عصورها المختلفة. لقد كانت الغنائية سبباً في إثراء القصيدة، بموجة هائلة من الصّبوات والأحلام، بحيث باتت هذه القصيدة قادرة على التّوغّل في روح من يقرأها. هذه الخاصيّة مكّنت الشّعر من الخلود، وهناك قصائد كثيرة وأبيات بعينها، مكتوبة منذ أزمنة بعيدة، لا نزال ونحن نقرأها عرضةً للارتجاف، لنقرأ هذا البيت للشاعر الجاهلي (النَّمر بن تولب):
"ألا يا ليتني حجرٌ بوادٍ أقامَ وليتَ أمّي لم تلدني".
إنّنا حين نقرأ هذا البيت، فإننا نصاب بالوحشة، إذ تتنزّل علينا مأساة الوجود كلّها.
على الرّغم ممّا للغنائية من خصائص مهمّة للشّعر، فإنّ لها بعضَ المثالب، ومنها انفلاتُ القصيدة وتشظّي مفرداتها، تبعاً لما تثيره روائح الكلمات من أصداء، لكنّ أهمّ هذه المثالب أنّ النّصّ الشّعري ربّما يمتدّ ويطول في بعض الأحيان، دون مبرّر موضوعي. لم يقتصر وجود هذه المشكلة على شعر التّراث، وإنّما أصابت الشّعر المعاصر أيضاً، إلى الحدّ الذي يمكن أن نقول فيه، إنّ عدداً من أهمّ شعراء الحداثة العربية استسلموا لتطويل قصائدهم تحت غواية الأحاسيس التي تتهاطل من الكلمات.
من أجل وضع حدّ لهذه المشاكل، فإننا يمكن أن نفتح النّصّ الشّعري على أفق المشهد. السّرد أيضاً يمكن استخدامه في الشّعر من أجل وضع حدّ للتكرار. لعلّنا نجد في شّعر التراث القديم مثل هذه التقنيات، ولكنّها لم تكن تقنيات مكرّسة في الكتابة الشعرية في ذلك الوقت. كانت تلك المشاهد ترد (أحياناً) من خلال بيت شعري، أو من خلال عدد من الأبيات، يقول الشاعر الشّريف الرّضي:
"إذا ما دخانُ النّدِّ من ثوبها علا على وجهها، أبصرتَ غيماً على شمسِ".
البيت السابق فيه مشهد شعري جميل ومتحرّك، ومن خلاله تنطبع في ذاكرتنا صورة المرأة التي جرى تبخير ثوبها بعود النّد، حيث أخذ الدخان يصعد حتى بلغ وجهها، فكان يمرّ على الوجه كما يمرّ الغيم على الشمس.
النّقلة الجديدة التي حدثت في توظيف الحالة المشهدية، في الشّعر العربي المعاصر، جاءت من العراق. على أيدي عدد مهمّ من الشّعراء، نذكر منهم: عبد الوهاب البياتي، حسب الشيخ جعفر، سعدي يوسف، يوسف الصّائغ. ولعلّ هذا النّمط من الشعر قد انتقل تأثيره إلى النّصوص العربية بفعل ثقافة الشعراء العراقيين، واطّلاعهم على خارطة الشعر العالمي، حيث نجد أنّ تيار قصيدة المشهد هو تيار معروف وله ممثّلوه في العالم، مثل الشاعر الإسباني فدريكو لوركا، واليوناني يانيس ريتسوس، والفرنسي جاك بريفير.
من خلال قصيدة المشهد، أصبح النصّ الشعري يتحرّك وفق مدار مدروس، يبدأ بنقطة وينتهي بنقطة، وما بين نقطة البداية ونقطة النهاية يسير النّصّ، حيث ننتقل من صورة إلى صورة، ليتضح في النهاية المشهد الشعري العام، دون أن تكون هناك زوائد من الكلمات. هذه قصيدة مشهدية للشاعر التشيكي فلاديمير هولان، بعنوان عودة الغائب:
"بعد غيبة طويلة،
وصل المسافر البيت.
دلفَ إلى الداخل، فراعَهُ اصفرارُ السّتائر.
جذبت انتباهَهُ تلك الطاولةُ الصغيرةُ
التي يعلوها الغبار.
كان ثمة فنجانان من القهوة هناك
وفجأة
تسمَّرت عيناه على واحدٍ منهما، صَبَغَتْ حافته
لطخةٌ من أحمر الشّفاه".
وهكذا فالقصيدة السابقة تنتقل بنا من صورة إلى أخرى، من خلال عملية السّرد، حتى تقودنا أخيراً إلى المسافر الذي يحدق في الفنجان المصبوغ. هنا القصيدة تهجس أكثر مما تقول، ولعلّ الشاعر أراد من خلال ذلك، أن يلفت نظرنا تجاه الرجل الذي تفور في رأسه الذّكريات.
لعلّ هذا البنية المشهدية في الشّعر متأُثّرة ببنية المشهد السينمائي، فنحن حين نقرأ القصيدة السابقة فإننا نتخيّل مشهداً سينمائياً يتشكّل شيئاً فشيئاً، ولعلّ المفاجأة تكمن فيما يخبّئه السّطر الأخير، حيث يعثر الرجل الذي دخل البيت وتفقّده على فنجانين متروكين على الطاولة، وأحدهما كان مضمّخاً بروج امرأة. مثل هذه المرأة قطعاً ستكون زوجته، أو حبيبته. هو لم يخبرنا من تكون، ولكننا نستدلّ عليها من خلال تلك اللطخة الحمراء التي على الفنجان. إنها من مخلّفات امرأة ما يعرفها الشاعر كانت هناك تجلس على الطاولة، وربّما كان الفنجان الآخر له، حيث كان يحتسي القهوة معها.
القصيدة القصيرة أيضاً التي سُمّيتْ بقصيدة التوقيعة، يمكن لها أن تكون خياراً آخر، للتخلّص من مأزق الطّول والتّكرار الذي تقع فيه القصيدة الغنائية في العادة. ولقصيدة التوقيعة هنا شروطها، ومن هذه الشروط الكثافة الشعرية، بحيث نستخدم أقل عدد من الكلمات في بناء القصيدة، ومثالنا في ذلك قول المتصوّف النفري: "كلّما اتّسعت الرّؤيا ضاقت العبارة".
تاريخيّاً كانت القصيدة عند العرب هي تلك التي تكون أبياتها سبعة أبيات وأكثر، أمّا إذا كان عدد أبيات النصّ الشعري دون ذلك فكان يسمّى مقطوعة شعرية. وفي اعتقادي أنّ النّص قليل الأبيات أو الأسطر يمكن أن يكون أحياناً أفضل من نصّ غنائي طويل ضعيف ومرهق لقرّائه.
التجديد في بِنية القصيدة أمر بالغ الأهمية، والقفز في الفضاءات الحرّة من أجل المغامرة والطيران شرط يتطلّبه الشّعر. ومِمّا يُفرح أنّ البشرية لم تضع تعريفاً محدداً للشعر، لذلك بقي سقفه عالياً، أو الأصح بقي الشعر دون سقف.
]]>
هل تريد لطفلك أن يكون ذكيًا؟
إليك هذه النصيحة الذهبية التي يقدمها العالم العبقري الألماني صاحب نظرية النسبية آلبرت آينشتاين: "إذا كنت تريد لأطفالك أن يكونوا أذكياء فاقرأ لهم الحكايات، وإذا كنت تريد لهم أن يكونوا أكثر ذكاء اقرأ لهم المزيد من الحكايات".
هل تريد لطفلك أن يكون ثريًّا؟
وصفة سهلة للثراء يقدمها الشاعر الإنجليزي ستري كالند جيليان؛ "قد تكون عندك ثروة ضخمة لا تساويها ثروة أخرى، تملأ بها عددًا كبيرًا من علب المجوهرات وخزائن الذهب، لكن لا يمكن أن تكون أبدًا أغنى مني، فقد كانت لي أم اعتادت أن تقرأ لي".
اتفق الشاعر الإنجليزي والعالم الألماني على أهمية قراءة الحكايات للأطفال فهي التي تمنحهم الذكاء والثروة الإنسانية التي لا تقدر بمال.
وها هو الطبيب الفرنسي المتخصص في طب الأطفال د. أرل جوســتاف Arles Gustave ينضم إليهما ليشير إلى أهمية قراءة القصص للأطفال كعلاج نفسي للصدمات.
إذ كان الدكتور Arles مسئولًا عن مشــروع يوفــر الدعــم الطبــي والنفســي والاجتماعي للأطفال المتأثريــن بالحــروب ، وقد اتبع أسلوبًا جديدًا في العلاج بالقصص بدلًا من الأدوية، فكان يقرأ على الأطفال قصصًا يختارها بعناية تتشابه أحداثها مع ظروفهم لتمنحهم الأمل والثقة في غد أفضل فيشعرون أن هناك من يشاركهم معاناتهم، وبالفعل كانت حالتهم تتحسن بعد القراءة.
في زمن الإنترنت وسيطرة وسائل التواصل الاجتماعي على حياتنا، صارت هناك ضرورة لتشييد جسور من التواصل بيننا وبين أطفالنا، قراءة قصة قبل النوم كل يوم هي رحلة في عالم من البهجة والسحر والخيال، وهي كفيلة بأن تصنع روابط متينة بين الأهل والأطفال.
كتب الكاتب الفرنسي فرنسين فرلان FRANCINE FERLAND في كتابه المشوق (احك لي قصة) raconte- moi une histoire أحد عشر سببًا يحفزنا على قراءة وحكي القصص للأطفال:
السبب الأول: أن قراءة القصص تعمل على تحفيز الحواس لدى الأطفال، خاصة حاستيّ السمع والرؤية، فالطفل يشاهد الصور ويستمع للقصة في وقت واحد فيربط بين الحاستين.
السبب الثاني: قراءة القصص تنمي المهارات الحركية للأطفال، يتعلم الطفل أن يفتح الكتاب، يقلب صفحاته ويغلقه.
السبب الثالث: مهارة التركيز والقدرة على الاستماع، يكتسيها الطفل من خلال قراءة القصص، مما سيكون له الأثر الطيب في العملية التعليمية فيما بعد.
السبب الرابع: القراءة للأطفال تثير الفضول وتحفز على التعلم والاكتشاف واكتساب معلومات جديدة في عدة مجالات.
السبب الخامس: للقراءة للأطفال فائدة مهمة ورائعة، إذ تعزز الشعور بالأهمية لدى الأطفال بتخصيص أحد الأبوين وقتًا له يصحبه في رحلة مدهشة بين صفحات كتاب مما يمنحه شعورًا بالدفء والحنان والثقة بالنفس لينشآ طفلًا سويًا ينبذ القسوة والعنف.
السبب السادس: قراءة القصص تمد الأطفال بحصيلة لغوية هائلة ومفردات ومترادفات متعددة، فيجيد السباحة في محيط اللغة الزاخر بأندر اللآلئ وأبهى الأصداف.
السبب السابع: يتعلم الأطفال التفكير المنطقي من خلال ربط أحداث القصة ببعضها البعض أثناء القراءة ويظل طوال القراءة يتوقع النهاية. مما يثري مهارة الخيال والتنبؤ لدى الأطفال.
السبب الثامن: نطق الحروف بشكل سليم أثناء قراءة القصص، يساعد الأطفال ممن يعانون من صعوبات التعلم على تعلم القراءة والكتابة بشكل أسهل عن أقرانهم الذي يعانون من نفس الصعوبات.
السبب التاسع: ماذا لو كنت البطل؟ سؤال يظل يتردد في عقل الطفل أثناء قراءة الحكاية، مما يطلق عنان الخيال وينمي ملكة الإبداع لديه.
السبب العاشر: "كل طفل فنان ولكن علينا أن نعرف كيف نستخرج اللؤلؤ من المحار" تلك كلمات الفنان الأسباني العبقري بابلو بيكاسو. قراءة القصص للأطفال يمكنها أن تكون وسيلة لاكتشاف مواهبهم في الكتابة، والرسم، وأيضًا الحكي.
السبب الحادي عشر: المشاعر المختلفة من فرح، وحزن، وغضب، وندم، وخوف وغيرها. يكتشفها الطفل ويستطيع أن يفرق بينها من خلال قراءة القصص والمواقف والأحداث التي تدور بين أبطالها كما يكتشف نفسه في ذات الوقت.. هل هو متسرع؟ أناني؟ فضولي؟ غيور؟ كريم؟ صبور؟
قراءة القصص وسيلة لتقويم سلوك الأطفال بطريقة غير مباشرة وهو ما يؤثر بشكل إيجابي في نفوس الأطفال.
أطفالنا براعم وزهور الغد كلما منحناهم الاهتمام والرعاية، أشرق المستقبل بكل الخير والرخاء. وهو ما أشار إليه الكاتب البرازيلي الشهير (باولو كويلو) في قصة رائعة يقول في سطورها:
(كان الأب يقرأ الجريدة وحين تركها أمسك بها طفله الصغير ومزق إحدى صفحاتها، غضب الأب وعنفه..
لكن الابن بمنتهى البساطة أمسك بالصفحة الممزقة وكانت تحوي خريطة العالم وفي دقائق قليلة استطاع أن يعيد الصفحة إلى ما كانت عليه..
تعجب الأب وسأله كيف استطعت أن تعيد تشكيل خريطة العالم، رد الطفل بكل براءة قائلًا "في الخلفية كانت هناك صورة لطفل، حين جمعتها وأعدت وجه الطفل عاد للخريطة شكلها و عاد وجه العالم").
]]>(اقتصرت في هذا المقال على محطات سريعة في تاريخ أدب الأطفال في الغرب، وكنت أود أن أكتب عن تاريخ أدب الأطفال في عالمنا العربي، لكنّ قلة المصادر وضيق الوقت لم يسعفاني. ربما أكتب في المستقبل مقالًا خاصًّا حول ذلك إذا كنت محظوظة وحصلت على مصادر تمدني بمعلومات واضحة وموثوقة)
كثيرًا ما تجذبنا كتب الأطفال المصوّرة وغير المصوّرة وهي مرتّبة بطريقة فنيّة في واجهات المكتبات، أو على أرفف أجنحة دور النشر في معارض الكتب، فنبدأ نقلّب صفحاتها، ونتأمل لوحاتها، وقد يأسرنا أحيانًا كتابٌ فنقع تحت سحره، حتى قبل أن يصل إلى أيدي أطفالنا الصغار. لكن هل كانت كتب الأطفال دائمًا بهذا الشكل؟ ربما تساءل الكثيرون عن البدايات الأولى لأدب الأطفال، متى وكيف ظهر هذا الأدب؟ وما العوامل التي ساعدت على نموّه ونضجه؟ وأين كانت هذه البدايات بالضبط؟ وكيف سارت في منعطفات التاريخ والزمن؟ لا شكّ أنّ الكتابة في تاريخ أدب الأطفال لا يسعها مقال قصير في مدوّنة؛ إذ لا يمكن لمثل هذا المقال أن يغطي كل المراحل التي مرّ بها أدب الأطفال، منذ بداياته الأولى إلى الآن. ولكنه سيقدم خطوطًا عريضة وإشارات سريعة لأهم المحطات التي شكّلت منعطفات حاسمة في تاريخ أدب الأطفال في الغرب.
ليس سهلاً أن نسجل نقطة البدايات الأولى لأدب الأطفال، خاصة وأنّ هذه البدايات، كما توضح المصادر، كانت مرتبطة بالحكايات الشفوية التي كانت تحكى في أوقات تجمّع أفراد العائلة في المساءات والليالي، لكنّ الشيء المهم الذي نحتاج أن نلفت النظر إليه هو أنّ هذه الحكايات لم تكن موجهة للأطفال بشكل خاص، بل هي حكايات يرويها الكبار للكبار، في الغالب، ويحضرها الأطفال فيستمعون إليها، ويتأثرون بها.
وحين بدأت تظهر الأشكال الأولى من الكتب لم يكن للأطفال حظٌّ واضح فيها؛ فقد كانت المجتمعات الأوروبية، قبل عصر النهضة، تنظر إلى الأطفال على أنهم "بالغون صغار"، لم يكن دورهم في شؤون الحياة أقل أهمية من دور الأم والأب، لذلك لم تكن هناك أشكال منفصلة للترفيه خاصة بالأطفال.
ولذلك كانت الكتب التي يقرؤها الأطفال في ذلك الوقت كتبًا تعليمية بالدرجة الأولى، تعلم الهجاء والنحو، أو كتبًا كتبت للكبار. وقد كان يسيطر على الآباء والأمهات والمعلمين الشعور بأنّ الأطفال يجب أن يقرؤوا فقط ما يحسّن سلوكهم، ويوجههم نحو الأخلاق الفاضلة، والسلوك القويم، ويعدّهم للخلاص ويحميهم من الجحيم. وغالبًا ما كانت الكتب تستخدم مفهوم العقوبات لتخويف الأطفال ودفعهم إلى طاعة الكبار، وكانت في معظمها تتخذ شكل حوارات طويلة بين طفل وشخص كبير (معلم أو أب أو أم) تؤكد كلّها على الأخلاق، وتعليم السلوك القويم.
وعلى الرغم من أنّ الكتب التي طبعت في هذه الفترة لم تكن موجّهة للأطفال على الإطلاق، إلا أنّ بعضها لاقى إقبالًا كبيرًا منهم، ويعدّ الآن من الكلاسيكيّات في تاريخ أدب الطفل في الغرب. ولعل كتاب السير روجر ليسترانج "حكايات إيسوب" الذي نشر عام 1484 يعد مثالًا جيّدًا على الكتب التي لاقت إقبالًا كبيرًا من الصغار والكبار، وهي حكايات ما زالت متداولة بين الناس حتى يومنا هذا؛ مثل حكاية الثعلب والعنب، والنملة والجندب، والراعي الكذاب، وغيرها. والطريف أنّ السير روجر ضمّن كتابه هذا ملحقًا ناقش فيه الأبعاد الأخلاقية التي اشتملت عليها الحكايات، في استجابة واضحة لقيم العصر حول ما يجب على الأطفال أن يقرؤوه.
لكنّ الكتب بقيت غالية الثمن، فكانت لا تصل إلا إلى أيدي فئة قليلة من الناس، ممّن لديهم القدرة على شرائها، إلى أن ظهر ما يعرف بـالـ chapbooks في القرن السادس عشر، وهي كتيّبات صغيرة، يتم بيعها بواسطة البائعين المتجولين، وتتكون من ورقة كبيرة تطوى لتكوّن كتابًا صغيرًا من 8 أو 16 صفحة. ويُنظر إليها الآن على أنّها كانت أحد الأشكال المبكرة للأدب التي كان يمكن للأطفال أن يصلوا إليها، وغالبًا ما كانت تشتمل على قصائد وقصص خرافية، وتعاليم دينية، وحكايات تاريخيّة.
وقد راجت هذه الكتب وانتشرت بين الناس حتى بدايات القرن التاسع عشر، ولعل حكاية "جاك العملاق وشجرة الفاصولياء" تعد من أشهر الحكايات التي نشرت ضمن هذه الكتب في القرن الثامن عشر، وهو القرن الذي انتشرت فيه كتب الـ chapbooks بشكل كبير، وصارت تصل إلى أيدي الأطفال في أوروبا وأمريكا الشمالية، على الرغم من أنّ هذا لم يكن يرضي المؤسسات الدينية والتعليمية في ذلك الوقت، لأنهم لم يتقبلوا أن يقرأ الأطفال نصوصًا كالقصص الخرافية التي ليس فيها فائدة ترجى من الناحية الدينية أو الأخلاقية، كما كانوا يزعمون.
لكن الانعطافة الحقيقية في أدب الأطفال ظهرت في أواخر القرن السابع عشر مع انتشار فلسفة جون لوك وجان جاك روسو؛ فقد كان لوك من أشدّ المؤيدين لفكرة أنّ الطفولة تعدّ مرحلة مستقلة مختلفة تمامًا عن مرحلة النضج، ولها حاجاتها النفسية والعاطفية والفكرية التي تتناسب معها، وقد اشتهر بفكرته التي تقول إنّ الذهن البشري في مرحلة الطفولة هو "صفحة بيضاء". وقد كان يرى أنّ الأدب يمكن أن يستخدم للتأثير على الطفل وتوجيهه وتعليمه، فقط إذا تمتّع بسمة الإمتاع والتسلية، ولذلك أخذ يحثّ الكتّاب على إنشاء كتب ممتعة ومسلية للأطفال، لمساعدتهم على فهم الحياة.
أمّا روسو فقد اختلف عن لوك في أنه، رغم تأكيده على استقلال مرحلة الطفولة، رفض فكرة "الصفحة البيضاء"، وأكّد على أنّ الأطفال ينمون وفق وتيرتهم الخاصة، ولهم تصوراتهم عن العالم وفق شروطهم وأطرهم المرجعية التي تختلف عن أطر الكبار. كانت الطفولة في نظره هي لغة "الوحشية النبيلة"، التي تمثل أقصى درجات البساطة والبراءة، ولذلك دعا إلى التعامل مع الأطفال على أنهم قراء أكفاء مخلصون، يتمتعون بقدرات فريدة ومستقلة لتقدير الجمال. وقد تركت هذه الأفكار آثارًا لا تُمحى في تطوير أدب الأطفال، والنظر إليه كنوع فريد ومستقل؛ فقد ساعد انفصال مفهوم الطفولة إلى مجال مستقل في الحياة على ظهور ما يعدّ في نظر المؤرخين أهم شكلين من أشكال أدب الأطفال: الرواية، والكتاب المصوّر.
وفي هذا الوقت من الانتشار الواسع لأفكار جون لوك ظهر جون نيوبيري، الذي عُرف بالأب الروحي لأدب الأطفال، لأنه كان الناشر الأول الذي فكّر في إنشاء خط نشر مستقل لكتب الأطفال، وبدأ بنشر كتابه الأول للأطفال "كتاب الجيب الجميل"، في 1744، وما يميّز هذا الكتاب هو أنّه يعدّ أول كتاب كُتِب بهدف تسلية القرّاء الصغار، بشكل صريح ومن دون مواربة. ولم يكتف نيوبيري بنشر هذا الكتاب فقط، بل نشر كتابًا آخر من تأليفه، ثم شرع ينشر كتبًا لكتّاب آخرين كُتبت للأطفال.
تعدّ كتب نيوبيري نقلة نوعيّة كبيرة في تاريخ أدب الأطفال؛ فقد شكلت، بأغلفتها المذهبة، وأوراقها الجاذبة، وحكاياتها المثيرة، ورسوماتها، وبالدمى التي كانت تأتي أحيانًا مع الكتاب، منعطفًا كبيرًا في سوق النشر آنذاك. لقد أحدث نيوبيري ثورة في صناعة كتاب الطفل. وفي هذه المرحلة أيضًا ظهرت أنواع مختلفة من كتب الأطفال؛ ككتب الألعاب، والألغاز، والأبجدية، والأغاني، والحكايات الخيالية، بحيث صار أدب الأطفال في هذا الوقت أقل توجيهًا، وأكثر تركيزًا على إغناء مخيلة الطفل، ومخاطبة وجدانه وأفكاره حول العالم من حوله، وابتعدت النصوص شيئًا فشيئًا عن غايات قولبة الطفل وتأطير تفكيره وفق رؤية الكبار.
وبدأ سيل الكتب بالظهور، بحيث يعدّ المؤرخون القرن التاسع عشر العصر الذهبي لأدب الأطفال، وأخذت قصص المغامرات والفنتازيا تنتشر، وتلقى قبولًا من الأطفال، وبهذا ابتعد خطّ النشر عن الاتّجاه التعليمي التوجيهي الذي كان سائدًا في القرنين السادس عشر والسابع عشر. ويمكن أن نشير إلى مثال واحد فقط من هذه الكتب، وهو كتاب "الأميرة والعفريت" لجورج ماكدونالد الذي نشر في 1872 ، والذي يتناول عناصر فنتازية وسحرية، ويتحدث عن الأميرة آيرين التي تخطط العفاريت لخطفها لتزوجها من أميرهم هاريليت، حتى يتمكنوا من إجبار البشر على الخضوع لهم. وهكذا ابتعد أدب الأطفال تمامًا عن التوجيه المباشر، والقصص التي كلّها حوارات بين أطفال وبالغين، ونصوص تعظ الأطفال وتخوّفهم من عواقب الوقوع في الأخطاء. لقد صارت قصص الأطفال تطير بهم في عالم الخيال والمغامرات، وتضحكهم، وتأسرهم، وتجعلهم يكتمون أنفاسهم وهم يترقبون اللحظة التي سينتصر فيها البطل، أو اللحظة التي سيهرب فيها من براثن الوحش الشرير. الكتب التي قد تجعل الدموع تترقرق في عيونهم، حزنًا وتعاطفًا، أو تطلق ضحكاتهم عالية في الفضاء لتعلن عن ابتهاجهم وفرحتهم.
وإذا كان التحوّل في أدب الأطفال، قبل القرن العشرين، يتعلق بالمبادئ الأساسية حول مفهوم الطفولة، وما يجب أن يُكتب للأطفال، فإن التغييرات التي شهدها أدب الأطفال في القرن العشرين كانت مرتبطة بشكل أكبر بمحتوى الكتب نفسها؛ فقد أثرت الحرب العالمية الأولى والثانية في انتشار كتب تصوّر المثالية والروح القيادية، وفي خمسينيات القرن وستينياته ظهر طوفان من الكتب الواقعية تزامنًا أو تأثرًا بصعود نجم الواقعية آنذاك، فظهرت قصص وروايات تعالج مشكلات الفقر والتشرد والموت، كما استمرّ مسار الفنتازيا وازداد رسوخًا في أواخر القرن العشرين وتوسّع وتنوّع.
لقد أصبح أدب الأطفال أكثر صراحة وصدقًا، فلم يعد الأطفال محميين بقصص الأسر السعيدة، بل صار الأدب يصوّر لهم مواقف الحياة، سواء في النصوص الواقعية أو الخيالية، بحلوها ومرّها، بخيرها وشرّها، وصار راسخًا لدى الكتّاب أنّ الأطفال يمكنهم بيسر وذكاء أن يطوّروا فهمهم وسلوكهم وتصوراتهم عندما يقرؤون عن آخرين نجحوا في مواجهة مشكلاتهم بطريقتهم الخاصة.
إنّ رحلة أدب الأطفال في الغرب رحلة طويلة تتخللها الكثير من التفاصيل والأسماء والكتب، ولا يمكن بأي حال من الأحوال الإلمام بها أو بجانب منها في مقال محدود، لكن المرء يستطيع أن يدرك أنّ أدب الأطفال، شأنه شأن الأدب بشكل عام، يتغير ويتطور، ويتّخذ لنفسه أشكالًا تتوافق مع الزمان والمتلقي، وتستجيب لحاجات العصر والناس ورؤاهم.
وربما لا يكون عادلًا ولا مقبولًا أن نحاكم أدب زمن بمعايير زمن آخر، قبله أو بعده. إنّ معرفة السياقات التاريخية والاجتماعية والاقتصادية تساعدنا على التبصّر وفهم ما ينتج في زمن بعينه، سواء كان للأطفال أو لغيرهم. إنّها رحلة ممتدّة، لا تتوقف، ولا ندري بعد سنوات من الآن كيف سيكون شكل كتاب الطفل، وماذا ستكون أهم موضوعاته.
]]>
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ..} سورة يوسف (آية 3) - القرآن الكريم
في كثير من لحظات التحليل والتأمل، أتوقف عند اعتماد القرآن الكريم أسلوب القَصص، الذي أراه دليلًا قاطعًا على أهمية القصة في ترويض النفس البشرية، وإيقاظ مكامن الفضول المعرفي في أعماقها، وتهيئتها لتلقي واستيعاب الدروس والعبر في سياق من التشويق الهادف إن جاز التعبير. وكثيرًا ما يلفتني عند سؤال الأصحاب عن أحب السور القرآنية إلى قلوبهم، بديهية معظم الردود "سورتا مريم ويوسف"، فالمسلم أو المطلع على القرآن الكريم عمومًا يدرك أن هاتين السورتين تسردان قصصًا مكتملة العناصر من حيث الوقائع والشخوص والزمان والمكان. والقَصص القرآني لم يقتصر على أخبار الأمم الغابرة وقصص الأنبياء، بل شمل الحيوانات، مثل "نملة سليمان" و"حوت يونس" و"ناقة صالح" و"فيل أبرهة" و"غراب ابني آدم" وغيرها من المخلوقات.
يؤكد الروائي الشهير باولو كويلو "أن القصص إحدى أقدم الطرق التي اعتمدها الإنسان لنقل معرفة جيله"، وحين نتأمل هذه المقولة بروية، نجد من المنصف الاعتراف بأنه لولا القصص لضاع الكثير من موروثنا الثقافي، وامّحت آلاف الصفحات من سجلات تاريخنا البشري، ولولاها لما أتيحت لنا الاستفادة من عِبَر الماضي، أو نقل الكثير من خبراتنا لأجيال المستقبل. وإذا ذهبنا إلى أبعد من ذلك فسنجد أن قصص جول فيرن في الخيال العلمي سبقت الكثير من الاختراعات في مجالها، وكأنما في كثير من الأحيان كانت القصص منارة في دروب العلم، كما يصحّ العكس أيضًا!
اخترت هذا المدخل عن أثر القصص في حياة الإنسان، لأتوقف مع قارئي على عمق هذا النوع الأدبي، الذي أراه من أهم الوسائل التي يجب أن يتمسك بها الوالدان في تربية أطفالهما قبل أي مصدر تربوي آخر.
الحديث عن إستراتيجيات تربوية من منطلق الدراسة أو التحليل أمر عظيم بلا شك، لكنه أعظم حين يقترن بالتجربة، وهذا ما أدركته عندما أصبحت أمًّا، حيث لم تعد أيٌّ من الكتب التي قرأتها عن التربية دليلًا كافيًا لي بقدر ما كان أطفالي يفتحون بصيرتي لكيفية التعامل معهم.
أتذكر، في إحدى المرات أثناء عودتنا من حفل زواج، كيف قام طفلي بعدّ الأشخاص الموجودين في السيارة، ثم قال "جميعنا هنا، كي لا يحصل لنا كما حصل لعمّي في طفولته" وهنا أشير إلى قصة عن حادثة واقعية في طفولة زوجي كان قد قصّها على أطفالنا، وحكى فيها عن ذهابه وإخوته إلى حفل زواج، وخلال العودة انقسم أفراد العائلة الكبيرة في سيارتين، وبقي الطفل الأصغر في مكان الحفل، حيث ظنّت كل مجموعة أنه في السيارة الأخرى!
فكرت كثيرًا في عدد المرات التي نبهت فيها طفلي إلى ضرورة التزامه بأن يكون معنا حين نغادر أي مكان، كل ذلك لم يرسخ في رأسه كما فعلت القصة التي توافرت فيها طريقة السرد الممتعة، الذكريات التي تتعلق بوالده، المرح والتشويق. وأدركت حينها إلى أي مدى يمكن للقصص أن تحدث فرقا في التربية.. من هنا بدأنا في العائلة إستراتيجية تربوية جديدة تعتمد القصص.
مع الوقت، ومن خلال القراءة اليومية لأطفالي على مدى عشر سنوات منذ أن كانوا أجنّة، أيقنت أن القصص ليست أداة تثقيفية فقط، أو مادة تسلية، بل هي وسيلة لترسيخ المعتقدات، وبناء الفضائل، واستعراض الخيارات والحلول، وإثراء المخزون اللغوي لدى الطفل. كما تتيح القصة للطفل فرصة فهم كيفية تفكير الآخرين وتوسع آفاقه من خلال التواصل الذهني مع تجارب مختلفة عن التي يعرفها ويعيشها، وبالتالي فإنها تؤثر في الطريقة التي ينظر بها الطفل إلى الواقع، فهي توفر له عنصرًا توجيهيًا مقنعًا أكثر من النصح المباشر، وفيها جميع العناصر المهمة التي تحرك فضوله، حيث توفر الشخصيات صوتًا بديلًا لصوته، فيما تترك القصة -المقروءة له تحديدًا- فرصة تخيل المشهد ومن هنا تبدأ أهمية قصص ما قبل النوم التي يدير دفتها الأهل ويبحر من خلالها الطفل، فتوقظ بداخله ملكة التحليل، وابتكار المشهد في مخيلته لربطه مع الحدث الذي تسرده القصة، فيكبر وتكبر قدرته على فتح أبواب التأويل والتصوير والخيال.
يرى كثير من خبراء النفس أن فترة ما قبل النوم هي أكثر فترة يمكن أن تبني ثقة الطفل بمحيطه وتمنحه الأمان، إذ يكون تركيز الوالدين على الطفل وحده، كما يسمح القرب الجسدي بين الطفل وأمه أو أبيه بمنحه شعور الأمان والاحتواء، وهذه الفترة هي من أكثر الفترات التي يمكن أن يعترف فيها الطفل لوالديه بما يشغله، وفيها يسهل طمأنته وتوجيه سلوكه.. في هذه الفترة القصيرة، المهمة والجوهرية في حياة الطفل يمكن للوالدين بناء داخله. وتساعد مهاراتاهما في الاستفادة من تقنيات السرد التشويقية على تمرير معلومة أو التلميح إلى تصرف خاطئ، والإيحاء ببعض الحلول الممكنة دون تقديمها بشكل جاهز، لأن كل ما يسمعه الطفل سيساعد على تنمية ذكائه العاطفي، وخياله وقدرته على تكوين فكر نشط قادر على ابتكار الأفكار والحلول.
اعتُمدتْ القصص كإستراتيجية تربوية في العديد من الدول الأجنبية، وكانت دولة الإمارات العربية المتحدة سباقة عربيًا في ترطيب المناهج العربية الدراسية وكسر جمودها بالقصص الحديثة والممتعة. ومع هذا التحوّل المبهج في العملية التعليمية، والثورة الإيجابية التي رافقته على صعيد انتشار دور النشر الخاصة بكتب الأطفال، التي تعمل بدورها على تعزيز دور القصص في العملية التربوية، ظلّت خطط وبرامج توعية الأهل متواضعة، ولم تنل اهتمام الجهات المعنية والمؤسسات المجتمعية التي لا يبدو أنها تؤمن حقًا بأهمية القصة في التقويم والبناء، أو لا ترى الحكايات بوصفها دليلًا مبسطًا يساعد الطفل على فهم واقعه ونفسه بشكل أوسع وأعمق.
]]>(المقال مأخوذ من كتاب أوكسجين ضار للكاتب الكبير أمير تاج السر، الصادر عن دار أشجار للنشر والتوزيع)
دائمًا ما أصنف الكتابة بأنها واحد من الأمراض المستعصية التي يصعب الفكاك منها، سواء للذين أصيبوا بها فعلًا وأضاعوا أعمارهم في اللهاث خلفها ومحاولة التجويد والابتكار والتميز فيها، أو الذين لم يصابوا بها أصلًا ولكن أصابتهم مضاعفاتها، كلها أو شيئًا منها، خاصة بعد ظهور الجوائز الأدبية في عالمنا العربي، وما تجره من أحلام.
من أهم مضاعفات مرض الكتابة، ذلك الوهم الذي يرتديه البعض، وينتفخون به بكل جدية، إنهم أشخاص أسوياء في الواقع، يذهبون إلى أعمالهم بانتظام ويعودون، ويعولون أسرهم، ويذهبون بأبنائهم للمدارس والجامعات، وقد يشاركون في مناسبات اجتماعية كثيرة، مثل مناسبات الفرح والحزن، لكنهم في الوقت نفسه يربون الأفكارغير الواقعية داخلهم، ويحرصون على اكتمالها جيدًا، وإن صادفوا أشخاصًا توسّموا فيهم الجهل، وأنهم بعيدون عن موضوع الكتابة، مثل الأطباء، والممرضين، والموظفين الغارقين في مهن متعبة، قد لا تتيح لهم وقتًا لمطالعة كتاب، يدعون بأنهم كتاب أو شعراء كبار.
لقد صادفت كثيرًا من هؤلاء أثناء عملي، وكان ما يعجبني فيهم تلك الثقة المفرطة في الوهم، وأنه طريقهم إلى نشوة ذاتية محدودة، لكنها تساوي نشوات الكون كلها. وبعد ظهور الجوائز الأدبية وتعددها، وتمددها أيضًا في الواقع الكئيب لحرفة الكتابة، استولى الوهم عليها وجرها إلى دهاليزه لتصبح من المواد المفضلة، لكتاب وشعراء الوهم، يدرجونها في أحاديثهم باستمرار.
منذ عام تقريبًا زارني مريض في أواخر الخمسينيات، كان متأنقًا ببدلة كاملة ورباط عنق، وقد صبغ شعره بإتقان، وجلس على المقعد أمامي بطريقة توحي بنجومية قد لا أكون أعرفها. سألت عن شكواه فلم يفصح عنها أولًا، واختار أن يبدأ بما كان حلمًا أو وهمًا، قبل أن يتحدث عن مرضه الذي جاء به، والحقيقة لم يكن مريضًا طارئًا وإنما مريض مزمن، جاء ليحصل على علاجه العادي لارتفاع ضغط الدم.
سأل: ألا تعرفني.
قلت: لا والله.
وكنت قد تأملته بعمق أثناء ذلك، وتأملت اسمه المكتوب أمامي، وقمت بسياحة سريعة في أناقته، وغطرسته البادية بوضوح ولم أصل إلى شيء، وكان ثمة استياء كبير ارتسم على ملامحه، ولا بد أنه إحساس بأن نجوميته انخدشت، والحقيقة أن الذي انخدش كان وهم النجومية. وحين تحدث، كان ذلك بأسى. قال أنا شاعر عربي كبير، أحد أفضل الشعراء الموجودين الآن، ولا بد أنك مشغول بمهنتك ولا تعرف شيئًا عن الشعر والشعراء.
أظنني تأثرت فعلًا، وأحسست بجهلي وأنا أحد الموجودين بشدة في المشهد الكتابي، وما زلت أقرأ بانتظام، وأصادق الشعراء والكتاب، وأعرف الأخبار الصادقة والكاذبة على حد سواء. اعتذرت للرجل بضيق الوقت، وصعوبة أن تعمل في مهنة كثيرة الأعباء، وتلم بأشياء أخرى، ووعدته بأن أبحث عن نتاجه وأطلع عليه في أقرب إجازة أحصل عليها. أكثر من ذلك، استلمت بطاقته التي دون عليها بكل ثقة: شاعر. وحين ذهبت إلى بيتي كان أول ما فعلته، أن بحثت عنه، ذلك الاسم الذي لم يوح لي بشيء، وكانت النتيجة مخيبة فعلًا، فلم يكن ثمة شاعر بتلك المواصفات أبدًا، إنه الوهم، أكثر مضاعفات الكتابة جنونًا، وإحراجًا، لكنه موجود مع الأسف، ويزداد انتشارًا باستمرار.
بعد أن أصبحت جوائز مثل العويس، والبوكر العربية، وكتارا واقعًا مترسخًا في الحياة الثقافية، سطا عليها الوهم كما قلت، وقد درجت على استقبال رسائل كثيرة من أشخاص يتحدثون بصراحة بأنهم ليسوا مبدعين على الإطلاق، ولم يقرأوا أي شيء في حياتهم، لكنهم يدركون بأنهم سيكتبون وسيحصلون على جوائز كبيرة، وهناك من يسألني عن وصفة الكتابة من أجل جائزة، ما هي المواضيع المفضلة للجوائز؟ وكم عدد صفحات العمل الذي قد يحصل على جائزة؟ وأشياء أخرى مضحكة فعلًا، كأن الرواية قميص أو سروال يمكن تفصيله هكذا ببساطة، وارتداؤه ليعجب الناظرين، وبالطبع لم أكن أرد على مثل تلك الأسئلة التي يحركها الوهم.
هناك جوائز تمنح أيضًا عطاء جيدًا للدراسات النقدية، ومعروف أن الدراسات النقدية إبداع آخر ملازم لإبداع القص أو الشعر. هناك نقاد أوفياء ومجتهدون، يعملون بمؤهلات العمل ويكسبون جوائز في هذا المضمار، وواهمون شبيهون بالذين أصابهم وهم الكتابة الإبداعية، يتشبثون بما ليس حقيقيًا ويودون الحصول على جوائز، وعندي تجارب كثيرة في هذا الشأن، منها رسالة من واحدة تقول بأنها ناقدة أكاديمية، تريدني أن أكتب بحثًا مطولًا من آلاف الكلمات، عن رواياتي، وإرساله لها كي تقدمه لجائزة، وآخر يقول بأنه يحس بأنني سأساعده فعلًا حين أكتب له دراسة ضخمة عن رواياتي التاريخية، وهو سيقتسم معي أي جائزة يحصل عليها.
قد يكون الأمر مضحكًا، لكنه محزن فعلًا، ولو كنت أعرف كيف تكتب البحوث أو الدراسات الأكاديمية لحصلت على ثمارها بنفسي.
لقد تذكرت صيغة الوهم هذه، حين جاءني منذ أيام قليلة، مريض يشكو من آلام متكررة أسفل الظهر، كان أيضًا في نهاية الخمسينيات، لكنه لم يكن متأنقًا أكثر من اللازم، وقد نبتت لحيته بيضاء ومبعثرة. لقد تحدث الرجل بشكواه، وأضاف أنه يظنها من كثرة الجلوس على ديسك الكومبيوتر صباح مساء، حيث يعمل في الصباح موظفًا وفي المساء كاتبًا روائيًا. سألني: هل سمعت عن إبداع اسمه الرواية؟
قلت بسرعة: ليس كثيرًا.
قال: إنها قصة طويلة يكتبها الشخص الموهوب، ويقرأها الناس ويستمتعون بها، أنا أحد فرسانها وحصلت على جوائز كثيرة فيها.
هذا أيضًا واهم كبير بلا شك لأن اسمه لم يوح بفروسيته في مجال أزعم أنني أعرف حتى الذين ما زالوا يحبون فيه، وأظنه جر إلى الوهم إحدى الجوائز الكبرى، التي تتهادى الآن أمام الذين يعرفونها جيدًا والذين سمعوا بها مجرد سماع، وكان لا بد من إبداء أسفي لعدم معرفتي، والسؤال بدافع الفضول عن تلك الجائزة المهمة التي حصل عليها.
رد بثقة كبيرة: جائزة البوكر.
]]>