طائرٌ إثر طائرٍ لآن لاموت
لي فترة طويلة الآن وأنا أرغب في الكتابة عن كتاب آن لاموت "طائرٌ إثر طائرٍ". ولكن –كما تقول آن لاموت في كتابها هذا- "عليك أن تجلس." وبقدر ما تبدو هذه نصيحة بسيطة جدًا تقدمها لطلابها في دروس الكتابة، إلا أنها قد تبدو صعبة أحيانًا. ولأنني كنت أريد أن أكتب عن الكتاب بعد أن انتهيت من قراءته منذ فترة، شعرت بفتور ما، هذا الفتور أو الخوف أو البُعد عن الصفحة البيضاء، وعن الكرسيّ الذي عليّ أن أجلس عليه من أجل أن أكتب. والحقيقة أنني استطعت أن أكتب الآن لأنني قررت أن أعيد قراءة الكتاب مجددًا، وهذه المرة بقلم رصاص، وشريط من المحددات اللاصقة لأضعها على كل المواضع التي رأيت فيها اقتباسًا يصلح استخدامه في كتابة هذه المراجعة، أو في استخدامه في حياتي الكتابية. ولأثبت لكم أهمية الكتاب في حثكم على القراءة أكتب لكم هذا المقال. مقال عن مراجعة كتاب تمكنت من كتابته بسبب الكتاب الذي أراجعه، أليس هذا أفضل تسويق للكتاب؟ هو كذلك برأيي. ستجد في الكتاب إجابات كثيرة عن كيف تكتب، وماذا تكتب. تضع لك آن لاموت في هذا الكتاب خلاصة ما تعلمته في حياتها عن الكتابة، وخلاصة ما تقدمه أيضًا لطلابها في دروس الكتابة. "اكتب كل يوم لبعض الوقت". "اكتب كما لو أنك تعزف السلم الموسيقي على البيانو". "اكتب كما لو أنك تعيد ترتيب الأشياء مسبقًا مع نفسك". "اكتب كما لو أن الكتابة عهد شرف. والتزم بإنهاء ما تكتبه".
تشغلني هذه الفترة فكرة ما هي الوظائف التي عمل فيها الكتّاب في حياتهم خلال ممارستهم الكتابة؟ فنحن نعلم أن وظيفة الكاتب ليست وظيفة يمكنك أن تعيش من إيرادها المالي. وإن كنت مثلي فإنك تريد معرفة إجابة هذا السؤال ربما من أجل أن تعرف ما هي الوظيفة المثلى التي عليك أن تكون فيها أيها الكاتب المسكين؟ فأكمل القراءة لعلك تجد ردًا في حياة آن لاموت.
أرادت آن لاموت أن تصبح كاتبة مثل والدها. كانت تكتب المقالات خلال الجامعة لصحيفة الكلية، وتحاول "كتابة القصص الفظيعة"على حد قولها. بعد ذلك عملت في وظيفة كاتب طابعة في شركة إنشاءات هندسية ضخمة وسط المدينة. تقول إنها " كانت وظيفة مزعجة جدًا ومملة جدًا، ولكن سرعان ما اكتشفت أن بمقدوري التخلص من معظم هذه الأعمال الورقية دون وقوع أي تداعيات حقيقية في الواقع، وهذا حررني قليلًا ومنحني الوقت لكتابة قصص قصيرة بدلًا من ذلك". ولاحقًا عملت في تعليم التنس وفي تنظيف المنازل من أجل الحصول على لقمة العيش. ولم تتوقف خلال تلك السنتين ونصف عن الكتابة. بعد ذلك تمكنت من نشر كتابها الأول في سن السادسة والعشرين ولكن النشر لم يكن كما تخيلته، تقول: "اعتقدتُ، قبل أن أبيع كتابي الأول، أن هذا النشر سيكون ممتعًا وآنيًا وتلقائيًا، وتجربة مثبتة ورومانسية تشبه إعلان هولمارك حيث يجري البطل في حركة بطيئة عبر مرج أخضر غني بالأزهار البرية ويقفز في دفء أحضان الإشادة بالنفس وتقدير الذات. لم يحدث هذا لي". وتسرد لنا كيف أن الأشهر التي تسبق النشر وتتلوه مخيفة ومليئة بالعواطف حيث تتضارب التقييمات التي تصلك حول كتاباتك، ويتبين بعد النشر أن ما كتبته لم يكن أفضل ما كُتب منذ "عهد موبي ديك"، وأنك لن تتمكن من التقاعد المبكر. ولم يحدث ذلك لا في كتابها الثاني ولا الثالث ولا الرابع ولا الخامس. ولكنها على الرغم من ذلك استمرت بالكتابة، وتقول: " أشجّع أي شخص يشعر أنه مضطر للكتابة على القيام بذلك. أحاول فقط أن أحذّر الأشخاص الذين يأملون في نشر أعمالهم من أن النشر ليس أهم ما في الأمر. بل الكتابة. فالكتابة تمتلك الكثير لتعطيه والكثير لتعلمه والكثير الكثير من المفاجآت. وتبيّن أن الشيء الذي عليك أن تجبر نفسك على فعله –فعل الكتابة الحقيقي- هو الجزء الأفضل. كأن تكتشف أنه في حين كنت تعتقد أنك بحاجة إلى كوب من الشاي للتزود بالكافيين، كان ما تحتاجه في الواقع هو طقس إعداد الشاي. لقد تبين أن الكتابة تكافئ ذاتها بذاتها".
وتتحدث لاموت عن تجربتها في تعليم الآخرين الكتابة: "قدّم لي أحدهم عرضًا لتدريس ورشة حول الكتابة منذ حوالي عشر سنوات، وها أنا أعطي دروسًا في الكتابة منذ ذلك الحين". لا أخفيكم، شعرت ببعض السعادة وأنا أقرأ هذه الكلمات، ليس لأن فكرة تدريس الكتابة تبدو مثيرة للاهتمام، ولكن لأنها عملت أخيرًا في عمل يتماشى مع كونها كاتبة. ولكنني الآن أفكر في مجمل ما جاء في الكتاب من دروس حول تعلّم الكتابة وأقول إنه ليس مهمًا في الحقيقة الوظيفة الصباحية أو المسائية التي سيتسنى لأي كاتب أن يعمل فيها، لطالما أنه يقتطع من يومه وقتًا من أجل الكتابة ويكتب. فكما تقول آن لاموت إنّ طلابها مثل جميع الحالمين بالكتابة لا يرغبون بسماع: " أنني كنت فنانة تتضور جوعًا إلى ما بعد صدور كتابي الرابع. ولا يرغبون في سماع أن معظمهم ربما لن يتمكن من نشر أعماله وأن عددًا أقل سيجني ما يكفي بالكاد للعيش". "إن تصورهم حيال ما يعنيه النشر بعيد كلّ البعد عن الواقع".
ولكن لا تقلقوا فإن آن لاموت تعدكم أنها تقدم لكم في هذا الكتاب "ما تعلمته طوال مسيرتها، وما قامت بنقله إلى كل دفعة جديدة من الطلاب... و كل ما تعرفه تقريبًا عن الكتابة".
وبهذا يمكنكم بكل صدق أن تستخدموا هذا الكتاب استخدامًا عمليًا، كما لو كنتم تحضرون ورشة تعليمية في الكتابة على مدى أشهر مع الكاتبة آن لاموت، حيث إنه يقدم لكم أفكارًا كلها قابلة للتطبيق على محاولاتكم الكتابية الخاصة، فتشرح لكم في القسم الأول كل ما يتعلق بالكتابة بدءًا من الشروع في العمل، والمسودات الأولى التافهة، وتوخي الكمال في الكتابة، وكيفية بناء الشخصية بأمثلة عملية وواقعية، والحبكة والحوار وغيرها. وصولًا إلى القسم الثاني الذي يتعرض لمشكلات تواجهكم في الكتابة وفي الحياة على حد سواء، وفي القسم الثالث تقدم لكم أفكارًا تساعدكم في مشواركم الكتابي من استعانة بمجموعات كتابية أو قراء تثق بهم ليقرؤوا مسوداتكم وهكذا، وفي القسم الرابع تفيض الشرح عن جوانب النشر واكتشاف الأسلوب. وتختم بدرس أخير. وبهذا ينتهي الكتاب.
فكن مستعدًا وأنت تقرأ هذا الكتاب أن تبريَ كل أقلامك الرصاص، وتجهز أوراقك البيضاء المخيفة، "واكتب كل الأشياء التي أقسمت أنك لن تخبرها لأي مخلوق على الإطلاق".
ولكن مهلًا، ربما تحبون أن تعرفوا ما الذي يعنيه عنوان الكتاب؟ إليك القصة "منذ ثلاثين عامًا، كان أخي الأكبر، وعمره حينئذ عشر سنوات، يحاول كتابة تقرير عن الطيور ولديه مهلة ثلاثة أشهر للكتابة والتي من المقرر أن تنتهي في اليوم التالي. كنا في نزهة إلى كوخ عائلتنا في بوليناس، وكان يجلس على طاولة المطبخ على وشك البكاء، محاطًا بالورق الممزق وأقلام رصاص وكتبٍ لم تفتح عن الطيور، وقد شلّت حركته بسبب ضخامة المهمة التي تنتظره. جلس والدي بجانبه ووضع ذراعه حول كتفه وقال: (طائرًا إثر طائرٍ، يا صديقي. فقط ابدأ الكتابة عن طائر إثر الآخر)".
وأنا أحب أن أقول لك: كلمة إثر كلمة، يا صديقي. فقط ابدأ الكتابة بكلمة إثر كلمة.
طائرٌ إثر طائرٍ لآن لاموت
إصدار: دار أثر