مراجعة لرواية: "ذِئْبٌ اسْمُهُ طَوّافٌ" لروزان باري
مِن بيتِها المعلَّقِ وسطَ شجرةٍ كبيرةٍ في ولايةِ أوريغون تتحفُ "روزان باري" اليافعين بقصَّةٍ عن الحياةِ البريةِ، وتُعَيِّنُ بطلَها ذئبًا متَّشبِّثًا بموطنه، فينتمي إليه ويعرف "فوقَ أرضِه كلَّ بحيرةٍ مختفيةٍ، وكل تلة صخرية"، ثم ينفصلُ عن قطيعِهِ بسببِ هجومِ ذئابٍ منافسةٍ، فيتشرد القطيع ويضيع الوطن، ويجول طواف بحثًا عن المفقود، فلا يجد إلا أشلاء القطيع وبقايا ألم، فيوقن بأن "هذا المكان لم يعد وطنًا؛ لأن قطيعه لم يعد في الجبالِ". ولأن الأوطانَ بأهلها.
(مكتب الكاتبة روزان باري المنزليّ، فوق شجرة)
هذه الرواية تحكي قصتك، إنها حكايةٌ قديمةٌ، أصيلةٌ، وُلِدَتْ مع شعاعِ النورِ الأولِ، لكلِّ مخلوقاتِ الأرضِ، مع صرخةِ الحياةِ الأولى، حكاية ارتباطِ الإنسانِ بالأرضِ والمكانِ، واحتياجِ الأرضِ للإنسانِ، تعلوهُما صفحةُ السماءِ حيث "يتلألأ نجم الذئاب، الأكثر سطوعًا بين الجميع".
تركز "روزان باري" في روايتها على ثنائية الأرض والإنسان، فقد تشعرُ بالضياعِ وأنتَ واقفٌ على أرضِك، فتعودُ -حتمًا- لاطمئنانِكَ بعدَ حينٍ، ولكنَّك حينَ تكونُ أحدَ المتجولين المتعبين في أرضِ التيهِ سيغلبُكَ الألمُ ولن يرفُقَ بك، لن تروقَ لك النسماتُ الجديدةُ الغريبةُ، ستختنقُ بها، وستراقبُ تعثرَ خطواتِكَ، بينما أنت تائِهٌ تبحثُ عن موطِنِكَ.
تتعاطَفُ "روزان باري" مع قصصِ اللاجئينَ في العالم، وتُهديهِمْ رواية "ذئب اسمه طواف"، فتحكيهم لأنفسهم، تضامنًا، وكأنها بينهم في التيهِ، فتبني من "الذئبَ طواف" رمزًا لكلِّ لاجئٍ قد سُلِبَ منه وطنُهُ بقوةٍ ودموعٍ وألمٍ.. وتؤكد بأن الوطن أساس، والبحث عنه ضرورة، فصرَّحتْ في أولِ الحِكايةِ بأنَّ هذه الرواية بَلْسَمٌ، ترجو أنْ تطبِّبَ به آلامَ كلِّ المتجوِّلينَ بحثًا عن وطنٍ.
حاولَتْ روزان أن تصفَ بالكلماتِ ما وراءَ الدمعِ، وألمِ الفراقِ ورهبةِ الضياعِ، بصدقٍ، وتمكنت بمهارةٍ واحترافيةٍ قصصيةٍ واضحةٍ، فصورت للقارئِ في كلِّ فصولِ الروايةِ مشاهدَ الغربةِ والرحلةِ بعدَها كمشهدٍ حيٍّ، فبدأت بضياع صاحب العرين، الأبِ الذي ترك علاماته عند مدخل العرين يومًا، وبحثِ طواف عنه وهو" في منتصف طريق العودة عندما سمع أغنية أبيه الأخيرة" فكان ذلك أولَ الاغترابِ، وأَوْحَشَهُ وأمرَّهُ، موت الذئب الأب، اختلطت فيه الأصوات، ومُزِجَت جيدًا، " أصواتٌ قصيرةٌ وعاليةٌ، ارتدَّ صداها عنِ الصخورِ" إنها الأغاني الأخيرة، التي انتصب لها فراء طواف، ورَفَعَ رأسه، يريد أن يتشبث بآخر "نفحةٍ من رائحةِ الوطن" ، ذلك المشهد الحي المؤلم الذي صنعته "باري"، هو ذاته حين تفقدُ وطنَك وقطيعَك، واطمئنانَك، وهو الألم ذاته الذي يجعلك إلى آخرِ الفصولِ لاهثًا، وتخونك أنفاسك، "فتقفز فوق الأرض، مع طواف، وتقفز أغنية الوطن الأخيرة في قلبيكما، بينما تبحثان معًا عن وطن وقطيع، وأمان حقيقي.
تُمْتِعُ "باري" القارئَ بلغةٍ جديدةٍ يخالطُها عواءٌ أليم وهديرٌ ونعيق، يشدُّ القارئَ بهدوءٍ ومهارةٍ، فيسمعه واضحًا، قويًّا، ويحاول تفسيره بامتداد الرواية وسير أحداثها. وتستخدمُ السردَ والوصفَ المتقنَينِ على طول فصول الرواية، بينما تقبُعُ وراءَ القارئ ذئابٌ وأيائلُ، وغربانٌ تنعقُ فوقَ رأسِهِ تمامًا، من الغاباتِ في بورتلاند إلى عرين القارئِ، وبينَ أحضانِه.. فيشعر بالتراب الرطب تحته، ويرى نجم الذئاب يراقبه في صفحة السماء.
"ذئبٌ اسمُهُ طوافٌ" رِوايَةٌ سَتَعيشُ فيها وَسطَ قَطيعِ ذِئابٍ "ينتمي إلى الجبال، وتنتمي إليه"، فَتَشُمُّ الرَّوائِحَ بِأُنوفِهِمْ، وَتَسْمَعُ الأَصْواتَ المُحيطَةَ بِكَ بِطَريقَتِهِم، سَتَرى نَفْسَكَ مُسْرِعًا تَعْدو مَعَهُم، حينَ يَرَوْنَ بَشَرِيًّا يُريدُ اصْطِيادَهُم، قَدْ تَتَعَثَّرُ هُناكَ بِأَفْكارِكَ وَتَحْتارُ، فَفي الحينِ الَّذي تَنْتَمي إِلى البَشَرِ الصَّيّادينَ سَتَجِدُ نَفْسَكَ تَعْدو مَعَ طَوّاف، كَتِفُكَ إِلى كَتِفِهِ، تَلْهَثُ بِحَرارَةٍ مِثْلَهُ، وَتَرْجو لَهُ النَّجاةَ.
سَتَأْخُذُكَ هذِهِ الرِّوايَةُ مِنْ أَوَّلِ سُطورِها كَما لَوْ أَنَّها مِصْيَدَةٌ، سَيَنْمو الفِراءُ عَلى جَسَدِكَ، تَتَلَمَّسُهُ ناعِمًا يَكْسوكَ، وَتَتَعاطَفُ مَعَ طَوّاف، سَتَبْكي مِنْ أَجْلِهِ، وَتَبْحَثُ مَعَهُ عَنْ سَبيلِ الغَوْثِ في رِحْلَةٍ نَحْوَ أَمانِ الوَطَنِ وَدِفْءِ العائِلَةِ، وَسَتَبْقى مُنْدَهِشًا تُكَبِّلُكَ أَحْداثٌ وَتَفاصيلُ كَثيرَةٌ، وَسَتَسْمَعُ هَسيسَ أَفْكارٍ وَكَلِماتٍ أَخْفَتْها المُؤَلِّفَةُ "روزان باري" وَراءَ الأَشْجارِ في الغَيْضاتِ، أَوْ تَحْتَ صُخورِ الجِبالِ البَعيدَةِ، سَتَشْغَلُ فِكْرَكَ، وَسَتُحاوِلُ اسْتِكْشافَ كُلِّ ما أَرادَ طَوّافٌ أَنْ يَحْكِيَهُ بِالعُواءِ في أَرْضٍ جَديدَةٍ، وحين قرر أن يطعم قطيعه، وأن يفعل أفضل مما يفعلون جميعًا".
سَتَقْرَأُ هذِهِ الرِّوايَةَ وَتَتَكَشَّفُ لَكَ فراغات شَخْصِيَّتِكَ، وَسَتَجِدُ عَقْلَكَ قَدْ عَيَّنَكَ واحِدًا مِنْ أَفْرادِ القَطيعِ -رَغْمًا عَنْكَ- فَقَدْ تَكونُ أَحَدَ الذِّئابِ الشّاحِبَةِ، أَوْ تُضَحّي بِكَ الغاباتُ قُرْبانًا كَحَميمٍ، وَقَدْ تَكونُ نُسْخَةً بَشَرِيَّةً مِنْ ثاقِب فتدرك حجم هشاشتك.
إنَّكَ بِالتَّأْكيدِ سَتَخْتارُ لِنَفْسِكَ النِّهاياتِ..
هذِهِ الرِّوايَةُ سَتَضَعُكَ أَمامَ المِرْآةِ.. فَإِمّا أَنْ تَخْجَلَ مِنْ نَفْسِكَ، وَتَزْدَرِيَها.. وإمّا أن تَقِفَ عَلى تَلَّةٍ عالِيَةٍ طَويلًا، طويلًا طويلًا عَنيدًا، قَوِيًّا كَالذِّئْبِ الأَبِ وَطَوّاف..
اِبْحَثْ عَنْ نَفْسِكَ في فُصولِ هذِهِ الرِّوايَةِ الَّتي سَتَعيشُ فيكَ حَتْمًا، وَلِلْأَبَدِ.
كاتبة المقال:
أ. بدرية المرزوقي
قارئة قصص وروايات