الغول ونبتة العلّيق، ملحمة الخير والشر الأبدية



من أول جملة في الرواية حتى آخر كلمة تثبت لنا د. نسيبة أنّها كاتبة متميّزة، متفوقة، تمتح من خيال خصب، وتبني نصّها بناء العارف العالم، وتتخير كلماتها بنفاذ بصيرة ثاقبة، وتوازن بين عناصر الحكاية بميزان حسّاس، كما يفعل صائغ الذهب تمامًا.

تبدأ الرواية بالغول، وتنتهي بالشجرة، وبين الغول والشجرة تقول لنا كلّ شيء، لا كما تقوله معظم روايات اليافعين، بطريقة خطابية مباشرة فجّة. بل هي تهمس به همسًا يشبه حفيف الأشجار.

الغول الذي يرمز للجانب الأسود فينا: الكراهية والغضب الأعمى، والإيذاء الأهوج، والانفعال السريع الذي لا يمهل، الغول ذلك البركان الذي يقذف بحممه على كل ما أمامه، ولا ينتظر ليرى نتيجة أفعاله.. كم غولاً أطلّ من داخلنا يومًا؟ وكم غولا أطلّ علينا من داخل الآخرين؟.

ثم الشجرة التي قررت أن تعاقب الغول من أجل سلمى، هل كان ذلك عقابًا أم شفاءً؟ لا ندري، لكننا سنعرف ونحن نمضي مع الغول في تحولاته المؤلمة. ومع كل تحوّل تبزغ في نفس الغول شمس صغيرة، لا تضيء إلا لسلمى، رمز البراءة والحب الصافي والخير والجمال. لكنّ شموس الغول الصغيرة لا تلبث أن تنطفئ، ولا يلبث الظلام أن يسود، حين يتدخل أهل القرية ويخطفوا سلمى من الغول، ويهربوا بها بعيدًا عن الغابة، فتبكي سلمى كما لم تبك من قبل، ويعود الغول لينقلب مرة أخرى وأخيرة إلى شجرة علّيق، لكنه هذه المرّة لن يرجع إلى طبيعته الأولى، بل سيبقى شجرة، وستمضي الأيام والشهور، والغول- الشجرة يختبر البقاء وحيدًا، ساكنًا، صامتًا، ثابتًا، لا ينظر إلا إلى السماء.

لماذا اختارت الكاتبة الشجرة؟ الشجرة الوحيدة في الغابة البعيدة؟ حيث لا حركة ولا صوت إلا صوت العصافير، ولا مرأى أمامها إلا مرأى السماء الزرقاء الواسعة. هنا في حضرة الصمت والوحدة، حيث لا أحد، هنا، حيث ينبت الصبر، ويحتبس الغول-الشرّ في جذع الشجرة-الخير، حتى يتشرب حكمتها وبصيرتها، لا ضوضاء، ولا كراهية، ولا أناسًا أشرارًا أنانيين، ولا خوف، ولا جوع، ولا هدرًا للكرامة، ولا سخرية.. هنا حيث لا أحد إلا الغول- الإنسان الذي بدأت تتساقط عنه قشرته الصلبة المفزعة التي بناها حوله لشدّة ما ظُلم وأهين وعذّب..

في حضن شجرة العليق، رمز العطاء والخير والصمت والصبر والحكمة والبصيرة يولد الإنسان-الغول، متحررًا من ماضيه وعقده وخوفه، يخرج من رحم الشجرة معافى تمامًا.

إنّها ثلاثية الغول- الإنسان- الشجرة، معادلة تتغير فيها النسب، لكنها موجودة في كل واحد منّا. لقد حررت الكاتبة الغول، وشفت جراحه القديمة الدفينة، وأعادته لطبيعته الحقيقية النقية، لتقول لنا: كلّ الغيلان يصنعها البشر، ثم يهربون منها خوفًا وكرهًا. إذا كنت تخاف من الغول، فلا تصنع واحدًا، يكفي أن تزرع شجرة.

اترك تعليقًا

Please note, comments must be approved before they are published

الرجوع إلى الأعلى