رواية عائلة بولد رواية الضباع في عالم البشر

هذا كتاب طريف رائع يقيم وشيجة جميلة بين عالمين: عالم البشر وعالم الحيوان. ومن المألوف أن تكون العلاقة بين الإنسان والحيوانات المستأنسة مثل القطط والكلاب والطّيور والحمير والخيول والجمال والأغنام والبقر والغزلان ونحو ذلك، ولكن أن تكون بين البشر والوحوش فذلك غريب إلى حد ما، إلّا ما نسمع عنه من ترويض بعض الوحوش كما نرى في حلبات السّيرك أو في حدائق الحيوان.

 لكن رواية عائلة بولد لليافعين التي ترُجمت حتى الآن إلى معظم لغات الأرض الحيّة تتحدّث عن عائلة من الضّباع كان موطنها الأصلي سفاري إفريقيا ثم انتقلت إلى تدنجتن في إنجلترا بطريقة سردية رائعة مفعمة بالتشويق الذي يملك على الإنسان فكره ومشاعره ونفسه.

زوج الضباع يشهدان مأساة زوجين إنجليزيين جاءا سائحين إلى سفاري إفريقيا لقضاء شهر العسل لكن حظهما التعيس وجهلهما أوقعاهما في مأساة؛ فقد سبحا في بركة تعيش فيها التماسيح فافترستهما، ولم يبق من دليل على وجودهما إلّا ملابسهما وجوازا السفر.

كيف خطر ببال الضبعين أن يهجرا السفاري وعالم الوحوش وينتقلا إلى مدينة في إنجلترا؟ هذا ما حدث، إذ تنقلنا القصة إلى عالم غرائبي عجائبي لكنه قريب من الواقع حين نرى إصرار الضبعين على أن يعيشا حياة الناس ويسلكا سلوكهم.


وفي مدينة تدينجتن كان عليهما أن يواجها الحياة بكلّ تفاصيلها، ولا تسأل عن هذين الوحشين كيف لبسا ملابس الزّوجين المغدورين وكيف تعلما لغة النّاس وكيف ركبا الطّائرة إلى لندن وكيف تصرّفا بلباقة في الطائرة ومع المضيفين والمضيفات؟!

ما هذا الخيال البارع الواسع الذي جعل الوحشين ينجبان ذكرًا وأنثى يكبران خفية عن النّاس، ثم يدخلان المدرسة مع الناس ويتعاملان مع التلاميذ والتلميذات والمدرسين والمدرسات، ويتّخذان أصدقاء وصديقات؟ كيف سكنت الأسرة بيت الزّوجين المغدورين واستخدمتا سيّارتهما الهوندا الزرقاء، ولم تلفت النّظر إلى أنّها عائلة ضباع تتخذ سمت البشر وتحيا حياتهم اليوميّة؟



كان لا بد لهذه العائلة الجديدة في هذا الحي أن تبحث عن عمل يمكّنها من العيش في حياة مدنيّة لا يتسلّح فيها المواطن بالنّاب والمخلب، كما هو الحال في السّفاري وإنّما يعيش من جهده وكدّه وفكره. نفد ما وجدوه من أوراق ماليّة وحان أوان العمل. صحيح أنّهما ما زالا وحوشًين يأكلان ما لا يأكل النّاس ولكن عليهما أن يجدو أعمالًا كما النّاس، فكان أن وجدت الزوجة وظيفة صنع القبعات، ووجد الزّوج وظيفة كتابة النّكات لمقرمشات العيد.. لكن هل تقف مشكلات حياتهما عند هذا الحد؟

كلّا بالطُبع! سيغلي بهم الحنين إلى سفاري إفريقيا، وبدل أن يذهبوا إلى موطن الآباء والأجداد، يخوضون مغامرة جديدة من أخطر المغامرات، حيث يقفون وجهًا لوجه أمام إدارة الحديقة وحرّاسها. وتبدأ مغامرتهم الكبرى في محاولة إنقاذ ضبع عجوز بلغ به الكبر عتيّا، وقرّر الطبيب المسؤول وحراس الحديقة التخلّص منه، وهنا تبلغ الشفقة أوجها لدى العائلة؛ الضبعين والجروين وبعد مغامرات ومماطلات وتشويق لا حد له تنجح العائلة بعد حفر نفق ومساعدة صديقتهم طفلة الجزار أن ينقذوا الضبع العجوز المسكين، ولا ينتهون من هذه المخاطرة الكبيرة حتى تقف في وجوهم مشكلات كبيرة مع الجوار؛ إذ تكتشف العائلة أخيرًا أنهم ليسوا وحدهم الوحوش الذين يخفون حقيقتهم عن الناس، بل هناك وحوش في الجوار تُخفي حقيقتها، وتراقبهم وتحصي عليهم الحركات والسكنات. وتتطور الأحداث وتتعقّد ونتعرف على هذا البيت الذي يصبح ملجأ لكلّ الحيوانات التي تبحث عن ملجأ يقيها الظّلم والاضطهاد.

لم يكن الزوجان أميليا وفرد ولا الجروان بيتي وبوبي مجرّد وحوش تبني رواية خيالية شائقة يجتمع فيها الغريب والعجيب، ولكنها رواية تجمع بين الأليجورية والواقعية، تذوب فيها القيم والمثل التربوية والإنسانيّة، تشيع فيها السخرية ويجلّلها كلّها فن الإضحاك الهادف الراقي الذي ينسجم مع طبيعة عالم الضّباع.

 إنّ هذه الرواية تذهب بنا بعيدًا في استكناه حياة الإنسان ومثله وقيمه وأخلاقه في عرضها على حياة الحيوان ولا سيّما الوحوش، ونعجب كيف تمكنت المؤلّف جوليان كلاري مع رسوم ديفيد روبرتس من إبداع عالمٍ نعيشه بكلّ تفاصيله ونفنى في وقائعه ومخاطراته ومغامراته، ونحفظ أسماء شخوصه الذين يعيشون في خيالاتنا وأحلامنا وواقعنا كأنّنا نعرفهم منذ زمن طويل، وتظلّ جرعات الفكاهة والسّخرية التي تغلّف القيم والمفاهيم الإنسانيّة والتّربويّة قادرة على توصيل الهدف الّذي كُتبتْ من أجله الرّواية، وكأنّنا نتعلّم من عالم الوحوش البربري القاسي كيف نعود نحن النّاس إلى طبيعتنا ومفاهيمنا وقيمنا وسلوكنا، ونحن نتأمّل كيف حَنا عالم الوحوش على الضّعفاء والمهمّشين والمستضعفين.

رواية جميلة عذبة شفافة ومشوّقة إلى درجة أنّها تمتلكك بأسلوبها ومضمونها، دون أن تغادرها من البداية إلى النّهاية.

اترك تعليقًا

Please note, comments must be approved before they are published

الرجوع إلى الأعلى