الغول ونبتة العليق للدكتورة نسيبة العزيبي
رواية استثنائية لليافعين
(رواية مصوّرة للكاتبة الدكتورة نسيبة العزيبي، رسوم زينب فيضي، إصدار دار أشجار)
تمتح هذه الرواية من عالم غرائبي عجائبي، تجمع فيه بين الواقع والأسطورة. تقف بصورة رئيسيّة عند شخصية الغول وتحولاته الماديّة والرّوحيّة، وتقف بالمقابل عند تحوّلات الطفلة سلمى، تفعل فيها كيمياء الحبّ فعل السّحر تجاه الغول، وترسم علاقة الأمومة بينها وبين الشجرة العملاقة، ثمّ بين الطّفلة وبين أهل المدينة والغابة، وكأنّنا نتجوّل في عالم صوفيّ.
تبدو العلاقة عدائية في مستهلّ الرواية وملتبسة بين الغول ومحيطه وبيئته؛ فثمة نفور شديد من طباعه الفظّة وسلوكه العدواني الشّرس ومنظره الكريه ورائحته النّتنة. صورة الغول النّمطيّة المتخيّلة في أذهان النّاس تواجهنا في مفتتح الرّواية:
"في الحقيقة كانت هناك الكثير من الأشياء التي ظلت تحيّر النّاس في أمر الغول، كهيئته الرثّة، ورائحته النتنة، وزعيقه العالي المستمرّ. لكن أكثر ما أزعجهم وأخافهم منه، كانت عادته في تدمير الأشياء وتحطيمها. إذ لم يكن ليمر يوم واحد على الغول دون أن يتلف شيئًا في المدينة. ولم تكن دموع النّاس وتوسلاتهم إليه بالتوقّف لتُغيّر رأيه أو لتثنيه عن سحق أشيائهم بيديه الغليظتين وقدميه الكبيرتين وجسده الضّخم القويّ."
هكذا يصف الراوي الغول قبل تحوّلاته القاسية التي تبدو أقرب إلى المجاهدة الرّوحيّة حين تَرينُ على القلب حجب صفيقة بالغة السّوادْ من الغين والرّين. ويبدو أنّ الغول قابل نفور النّاس منه برد فعل فظيع تمثل في هجومه على الشجرة الكبيرة التي أمعن فيها ضربًا وتكسيرًا وتحطيمًا حتّى آل الأمر إلى أن اقتلعها من جذورها.
إلى هذا الحد ويبدو الأمر متوقّعًا في سلوك الغول الشرير، لكنّ وقع ما جرى كان هائلاً على الطفلة سلمى اليتيمة التي كانت الشجرة أمّها البديل التي تعطف عليها وتؤويها وتحميها. وكان من المتوقع أن تحمل الطفلة سلمى غلًّا للغول الذي قطع الشجرة من جذورها وحرمها من كلّ شيء، لكن الكراهية والمقت انقلبتا مع الأيّام إلى تعاطف وإحساس بالفقد والقلق على الغياب ثم إلى حبّ لهذا الكائن الذي حدثت في داخله تحوّلات جوهريّة جعلته خلقًا آخر في سياق التحوّلات الوجوديّة التي تمسّ كل ما في الحياة والوجود وتطال كلّ شيء، فأصبح بعد تحوّلات مؤلمة نبتة عليق زاهية جميلة في المعنى والمبنى.
ولم تعد صورة الغول الصورة النّمطيّة التي كوّناها عنه في تصوّراتنا وحكاياتنا، ولكنّه الآن يشعر ويتعاطف ويحبّ ويقلق ويتفهم الحياة ومصائرها ولعبة الوجود حيث يتماهى الزائل مع السّرمدي؛ يتضح ذلك في العبارة المفتاحية "يمضي ويزول" التي تتناول الحياة والوجود وتتناول العذاب والألم، إذ تتبدّى الفكرة الفلسفيّة حول الوجود وسرمديته، فكأنّ العدم وهمٌ، وكأنّ الوجود حلقاتٌ متناسلةٌ مستمرّة متجدّدة، تستمر وتتجدّد بتجدّد الحياة ومظاهر الوجود، حيث يستمر الفرح وتتوالد السّعادة، ويولد الجمال والخير من نقائضهما. ولا يقف هذا التحوّل على الغول وسلمى، بل على مدار الشخوص التي تعم الرواية من مجتمع الغابة وأهل المدينة حيث تصبح سلمى مرحَّبًا بها بحضورها من مجتمع الغابة وبين أهل المدينة.
لقد تناولت الرّواية هذه التحوّلات القاسية الدّاخلية من منظور تحوّل النفسيّة الفظّة القاسية، وما تستبطنه من عدوانيّة ورغبة في الهدم والسّحق والتّدمير، مشفوعة بمظاهر خارجيّة تتمثّل في القبح والدّمامة والعنف والغضب المتأجّج والمقت والكراهية. وهذا كلّه يتجلّى في الفعل الماديّ الخارجي الذي استحال إلى اقتلاع الشّجرة الكبيرة من جذورها. ومن الطبيعي أنّ الكراهية تنتقل بالعدوى؛ فلكلّ فعلٍ ردّ فعل تمثّل في موقف النّاس من الغول الذي ارتسمت صورته النمطيّة في أذهانهم على النّحو الذي رأيناه. فمجتمع الصيّادين رأى في الغول الصّورة النمطيّة لهذا الكائن الخرافي الذي أصبح في حياتهم حقيقة واقعة.
لكن كيف يصبح هذا الغول الدّميم القذر العدوانيّ كائنًا مختلفًا، وكيف تستحيل القسوة والفظاظة والقتامة والقذارة ونزعة التحطيم والاقتلاع والانتقام والتدمير إلى وداعة بالتّدريج وفق تحوّلات داخليّة وخارجيّة، تتجلّى ملامحها في نبتة العلّيق الرّقيقة البهيّة الزّاهية التي تنمو وتكبر وتتطوّر وتتحوّل وفق نواميس البشر الذين يخرجون من حالة إلى حالة، ليصلوا إلى لحظة الكشف عند المتصوّفة، حين ينقذف في قلوبهم النّور الرّباني الذي يضيء النّفس والعقل، وينفسح حتى يملأ كيانه كلّه، ويعي الحقيقة السّرمدية المتّصلة، فلا يبدو الموت كما يراه النّاس المستغرقون في الطّين والحمأ المسنون، ولكن تتبدّى الحياة متّصلة مستمرة، ويصبح الموت مرحلة من مراحلَ يتجدّد فيها الكائن، وكأنّ الحياة المتجدّدة هي مغزى الكون، وكأن لا تشاؤم ولا حزن ولا ألم، بل التفاؤل والأمل هو سر الحياة والطّبيعة والوجود.
ولو تأمّلنا نهاية الرّواية على ضوء نبتة العلّيق التي طهّرت نفوسنا من الحكاية النمطية عن الغول، التي اعتقدنا مضمونها وعشنا رمزيّتها لوجدنا أنّ الخرافة حكمت تصوّراتنا وجمّدت أفكارنا، وجعلتنا لا نرى في خيالنا وفي سردنا إلاّ القبح والفظاظة والعنف والتّدمير، ولكن هذا الغول الذي خلقناه في نفوسنا وعقولنا يتحوّل في الأمرين: الظّاهر والباطن إلى كائن رقيق شفيف جميل يحب ويعطف ويتبنّى ولا ينتج إلآّ النتاج الرّائع كالنحلة التي تنتج العسل. والحقيقة أنّ الغول على صورته النّمطيّة لم يكن إلاّ الغول الذي سكن نفوسنا واستوطنها زمنًا طويلاً، وما المجاهدة والتحوّلات إلاّ مجاهدتنا لأفكارنا وإلا التحوّلات القاسية كقسوة الولادة الجديدة التي ترى العالم بعين المحبّة والأمل والتفاؤل حيث يزول العذاب والألم:
"نَظَرا إِلى الغابَةِ المُمْتَدَّةِ أَمامَهُما وَقَدْ تَلَوَّنَتْ بِحُمْرَةِ الشَّفَق، "قَريبًا يُشْرِقُ الصَّباحُ يا سَلْمى" قالَ الغولُ وَالتَفَتَ نَحْوَها، رَفَعَتْ سَلْمى رَأْسَها إِلَيْهِ، وَفَكَّرَتْ وَهِيَ تَتَأَمَّلُ وَجْهَهُ بِأَنَّهُ ما زالَ طَيِّبًا وَدافِئًا وَجَميلًا، ثُمَّ انْتَبَهَتْ أَنَّهُ أَفْلَتَ يَدَها مِنْ يَدِه، وَأَنَهُ ابْتَسَمَ لَها. لَكِنَّها لَمْ تَبْتَسِمْ. بَقِيَتْ عَيْناها مُعَلَّقَتَيْنِ عَلَيْه، وأَحَسَّتْ فَجْأَةً بِعَظامِ صَدْرِها تَضيقُ، وَتُطْبِقُ عَلى قَلْبِها.
"سَتَذْهَبْ؟" تَحَشْرَجَ صَوْتُها
لَمْ يُجِبْ.
"لا تَذْهَبْ" قالَتْ راجِيَة
أَطْرَق.
"أَذْهَبُ مَعَكَ إذًا؟"
نَظَرَ إَلَيْها وَابْتَسَم مُجَدَّدًا
"أَرَدْتُ أَنْ أَقولَ لَكَ أَشْياءَ كَثيرَةً لَكّني نَسيتُها"
"أَعْرِف"
"حَتّى الأَسْئِلَة! ذَهَبَتْ مِنْ رَأْسي كُلَّها"
"لا بَأْس"
"أُحِسُّ بِأنَّكَ لَنْ تَعود.. سَأَحْتاجُكَ وَلَنْ أَجِدَك"
"لَكِنّي جِئْتُ اليَوْم"
"لَكِنّي أَفْتَقِدُكَ حينَ تَغيبُ طَويلًا، وَأَقْلَقُ عَلَيْك"
"أَعْرِف"
"وَأَحْزَنُ عَلَيْكَ وَأَتَأَلَّم"
بَقِيَ ساكِتًا.
"أَنا لا أُريدُ أَنْ أَحْزَنَ وَأَتَأَلَّم" جاهَدَتْ دُموعَها
"سَيَمْضي وَيزول" قالَ مُطَمْئِنًا
"لا أُريدُ أَنْ أَحْزَنَ وَأَتَأَلَّمَ عَلَيْكَ أَبَدًا.. أَبَدًا"
"سَيَمضي الحُزْنُ وَسَيزولُ الأَلَمْ. وَسَتعودينَ سَعيدَةً كَما كُنْتِ وَأَكْثَر" أَكَّدَ لَها.
"حَقًّا؟"
"نَعَمْ"
"كَيْف؟"
"كما تَفْعَلُ الأَشْجار" ابْتَسَم
"وَهَلْ الأَشْجارُ سَعيدَة"
"نَعَمْ.. دائِمًا"
"دائمًا؟"
"دائمًا"
"حَتّى حينَ تَتَكَسَّرُ أَغْصانُها؟"
"حَتّى حينَ تَتَكَسَّرُ أَغْصانُها"
"وَحينَ يَضْرِبُ جِذْعَها فَأس؟"
"وَحينَ يَحْدُثُ هَذا أَيْضًا"
"كَيْف؟"
"كَيْفَ ماذا؟"
"كَيْفَ لا تَشْعُرُ الأشْجارُ بِالأَلَم؟"
"رُبَّما لأَنَّها مُمْتَلِئَةٌ بِالرِّضى وَفائِضَةً بِالحُب"
"دائِمًا؟"
"دائمًا"
"وَأَنْت؟"
"وَأَنا"
"مُمْتَلِئٌ بِالرِّضى وَفائِضٌ بِالحُب؟"
"نَعَم"
"لَيْتَني أَكونُ شَجَرَةً إذًا"
"سَتَكونينَ شَجَرَة" ابْتَسَم وَلَمَعَتْ عَيْناه
"لَيْتَني شَجَرَة"
"أَنْتِ شَجَرَة"
هذا الغول الذي رحل ظلّت ذكراه حاضرة، الغول في تحوّلاته كلها حتّى أصبح شجرة، وتظلّ الرواية محمّلة بأسئلة فلسفيّة، سداها ولحمتها الغرائبي والعجائبي. تتجلّى في علاقة المودّة والرحمة بين من لا يجتمعان في الواقع؛ سلمى والغول.
الغول ونبتة العليق، بما ترمز إليه من تحوّلات، رواية ساحرة في أسلوبها وسردها ومضمونها، تستحق الاحتفاء، ولا شكّ أنّها ستفتح الباب واسِعًا للأسئلة والحوار، وستمنح قراءها فرصة للتفكير والتأمل، وستدفعهم إلى البحث عن الغول والشجرة في داخلهم ومن حولهم.