البحر المحيط لأِلساندرو باريكو

رواية عن منشورات المتوسط، 286 صفحة
للكاتب الإيطالي ألِساندرو باريكو
ترجمة الشاعر والمترجم السوري أمارجي

  

حاولت أن أرسم البحر.

لن يفهم معنى هذه الجملة أحد إن لم يقرأ هذه الرواية. ليس الأمر كما تتخيله إطلاقًا، إنما هو على الأغلب، عكس ما تتخيله.

يأخذنا ألِساندرو في رحلة أمام البحر، مقابلًا للبحر، على ظهر البحر، وفي جوف البحر. كثيفة هذه الرواية وصَعبة على الذين لا يتحمّلون أهوال البحر وأمواجه العالية. فكما يكون البحر غدّارًا، ستكون هذه الرواية غدّارة أيضًا. ستجفل منها، ستشعر أنها ثقيلة، ومالحة في حلقك وصعبة البلع، وما أن تتجاوز الفصل الأول، ستكون قد انزلقت بسرعة في دوّامة من اللغة الشعريّة المكثّفة التي تضرب قلبك موجة تلو موجة.

تدور أحداث الرواية في نزل آلماير، النزل الذي يقع أمام البحر، ويضمّ بداخله مجموعة من البشر المختلفين، كل واحد منهم أتى إلى هذا النزل لغرض مختلف، وهدف لا يمت بصلة لأهداف الآخرين.

الرسّام الذي يحاول أن يرسم البحر، بماء البحر، وكل ما يودّ معرفته هو... أين هما، بحقِّ الجحيم، عينا البحر؟

البروفيسور الذي يدرس حدود البحر ليعدّ موسوعة كاملة عن الحدود... انظري هناك، حيث يصل الموج... يصعد الشاطئ، ثم يتوقّف... هو ذا، ذلك الموضع بالذات، هناك يتوقف... لا يستغرق الأمر أكثر من هنيهة، ثمّ إذا بالموج يتبدّد، لكن لو كان في مُكْنةِ أحد أن يوقف تلك الهنيهة... عندما يسكن الموج، عند ذلك الموضع بالذات، عند تلك العطفة... ذلك هو ما أدرسه. أدرس الموضع؛ حيث الأمواجُ تسكن. (..) هناكَ ينتهي البحر.

 

الفتاة المريضة التي يأخذونها للبحر لتُعالج، يُدهش والدها من قرار الطبيب فيسأله ستشفي ابنتي بواسطة البحر؟

 

الأب بلوش وصلواته المكتوبة؛

إلهي، أيها الربُّ الرَّحوم

تحلَّ بالصبر

إنّه أنا مرّة أخرى

 وآن دوفريا، ودود الطفل الصغير الذي يُجمّل الكتاب ويُلطّف صفحاته كلما ظهر.

وآدامز، آدامز الذي لديه عينا حيوانٍ في مصيدة. ولعلّي لا أُفصح أكثر لئلا أسلبكم متعة الاكتشاف. إلا أن ألساندرو قد وظّف الأعين في الرواية على نحوٍ لا يُنسى.

 

ألساندرو باريكو يصنع طريقة غريبة لجعلك تتعرّف على هذه الشخصيات، يضعهم أمامك في حوار، كل واحد يتلقف الحوار من الآخر، في مشاهدهم الخاصة، هؤلاء الذين يجهلون بعضهم ويلتقون للمرة الأولى في نزل آلماير، وهكذا يمضي الفصل الأول من الكتاب. ويتبعه فصلٌ قصير ولعين، لعنة حقيقيّة لن تمر بها إلا وأنت تشعر أن جوفك بأكمله امتلأ بالبحر، ستكرع من ماء البحر حتى تغرق في جوفه. جوف البحر. حديقة موتى لا نهائية، بلا صلبان ولا حدود. سترى الحرب بأعين عارية وقلب ممزق، وستعيشها، ستعيش صراع البقاء الوحشيّ. هذه الحرب التي نخوض، هذا الموت الذي نبذرهُ من حولنا لئلّا نموت. وإن خرجت من جوف البحر حيًّا، أعدكَ أنك ستخرج بلا عزاء. ذلك الذي رأيناه سيبقى في عيوننا، وذلك الذي اقترفناه سيبقى في أيدينا، وذلك الذي أحسسناه سيبقى في أرواحنا. وإلى الأبد، نحن الذين عرفنا الأشياء الحقيقيّة، إلى الأبد، نحن أبناء الهلع، وإلى الأبد، نحن العائدون من جوف البحر، إلى الأبد، نحن العارفون والحكماء، إلى الأبد- سنكون بلا عزاءٍ. بلا عزاءٍ.

إن ما يفعله بنا ألساندرو ليس سهلًا، ولكننا نتلقّاه بصدرٍ مفتوح، نحن الذين أحببنا الكلمة أبدًا رغم ما تفعله بنا، ورغم الأهوال التي تُرينا إيّاها، ما زلنا نتلقاها بصدرٍ رحب وجوع لا ينتهي. كمثل الذي يشرب من البحر ولا يرتوي أبدًا!

وبعد أن تمرّ بأهوالِ البحر، عزيزي القارئ، سيغيّر ألساندرو من طريقته مجددًا –لن ينفك يغيّر من أساليبه السرديّة والشعريّة على مدى الرواية- سيوضّح لك الأمر أكثر، سيضع لك كل الشخصيات الذين تمازجوا في عقلك، ويوقفهم أمامك واحدًا واحدًا، ويشرح لك التفاصيل التي تخبرك عن حياتهم وما تصير إليه. فلكلٍّ رحلته التي عليه إتمامها.

 

وأنتَ كذلك أمامك رحلتك التي عليك إتمامها. وقبل أن تنتهي من الكتاب سـ تعلمُ أن أيَّ أرضٍ لن تمحو، في داخلـ (ك)، بصمة البحر المحيط.

 

اترك تعليقًا

Please note, comments must be approved before they are published

الرجوع إلى الأعلى