قطار الليل إلى لشبونة
(صورة من فيلم: قطار الليل إلى لشبونة)
رواية عن دار ميسكيلياني، 570 صفحة
للكاتب والفيلسوف السويسري باسكال مرسييه
الجملة الأولى تُخبرك بكُلِّ شيء. وفي ذات الوقت لا تقول لك كلّ شيء لأنه لا يمكن لجملة واحدة أن تحكي حكاية كاملة. من الجملة الأولى تعرف أنك دخلت إلى عالم غريغوريس، عالِم اللغة، الأستاذ الجامعيّ الذي يعيش في اللغات القديمة المنقرضة، بالملابس الرثّة المعتادة والنظارة السميكة التي لا تتغيّر. "موندوس" كانوا يسمّونه، أيّ العالَم أو العالِم. ما الذي سيقلب حياة هذا الرجل الذي يبدو أن لا شيء يمكنه أن يقلب حياته؟ لطالما كان يحضر محاضراته على الموعد، ويسير في خطٍ واضح. الصفحات الأولى تضعك فورًا في الحدث، لقد عرفَ باسكال مرسييه كيف يقبض عليك من الجملة الأولى إلى أن تستقلّ قِطار الليل إلى لشبونة مع غريغوريس، وتسافر معه، هل بهذه السهولة يمكن للمرء أن يغيّر حياته بالكامل؟ التقى بامرأة تقف على جسرٍ وبيدها رسالة.. تقرأ، تغضب، ستقفز... ستقفز!
وبعد دقائق تختفي هذه المرأة ولا يلتقي بها غريغوريس مرة أخرى ولا نلتقي بها نحن. ولكننا نلتقي بأناسٍ كُثر يعلموننا أشياء كثيرة عن الحب والإخلاص والوفاء والعدالة والكُره والغضب.
بعد أن يلتقي غريغوريس السيدة المجهولة على جسر كرشنفلد ببيرن سويسرا وحين يسألها ما لغتها الأم –هو المعنيُّ دومًا باللغات والكلمات- يسمع للمرة الأولى كلمة "البرتغالية" ويُفتن بالطريقة التي تنطق بها المرأة الأحرف البرتغالية. وعلى إثر ذلك يذهب غريغوريس إلى المكتبة ليبحث عن كتاب ليتعلم اللغة البرتغالية، وإذ به يلتقي بكتاب يُخاطبه وَحْده. الكلمات التي نعثر عليها في كتاب ونشعر أنها تخاطبنا وحدنا، تقول لنا نحن ما لا يقوله لنا أي شيء آخر حولنا، ما كنا نبحث عنه دون حتى أن نعرف أننا كنا نبحث عنه. يترجم الكُتبيّ مقدمة الكتاب المكتوب باللغة البرتغالية لغريغوريس، ويقف الآخر مستغرقًا، إلى أن ينتهي من المقدمة. وينتقل إلى مقتطفٍ قصيرٍ مختزل "إذا كان صحيحًا أننا لا نعيش إلا بجزءٍ صغيرٍ مما يعتمل في دواخلنا، فما هو مصير بقيّة الأجزاء إذن؟"
يشتري الكتاب ويخرج غريغوريس في رحلة عبر قطار ليليّ إلى لشبونة ليقتفي أثر الطبيب الذي كتب هذه الكلمات والتأملات التي أسرته، ليس تمامًا لأنه يريد أن يعرف كل شيء عن حياة هذا الـ "أماديو دي برادو" ولكن لأنه يريد أن يعرف كل شيء عن نفسه، عن مصير الأجزاء التي لم يعشها.. أن يستعيد حلمًا كان يلازمه منذ الطفولة وكبّله الخوف من تحقيقه. نعم كان يُحبّ الكلمات، يلتقي مع أماديو في هذا الجانب "ربما لأنه خُلق من عدد مهولٍ من الكلمات". ما اللحظة التي نكتشف فيها أننا كنا أحياء ولكن لم نعش كما نريد؟ ما اللحظة التي نكتشف فيها أنه لم يعد ثمة الكثير من الوقت لبناء حياة حيّة مليئة بالحُب والمقاومة والتجارب؟ بالنسبة لغريغوريس كانت في الانتباه المفاجئ لقُرب الموت. ربما لأنهُ على بُعدِ قفزةٍ من جسر، أو لأنه تجسّد في لغةٍ يجهلها، وبهذا يجهل معها آلاف الأشياء التي تُخبئها اللغة من حكايات الذين عاشوا بلسانها.
إنها رواية تتحدثّ عن علاقة معقدة بين أبِ أماديو الذي عمل قاضيًا خلال حُكم النظامِ الفاشي للديكتاتور لاسزار، وبين ابنٍ كان يود أن يصبح كاهنًا، عاشقًا للعدالة والإخلاص ولاحقًا يُصبح جزءًا من المقاومة التي ترفض هذا النظام.
"تُكتب حدود الإرادة والخوف التي يثيرها الآباء بقلمٍ من نار في أرواح الصغار المليئة بالعجز والجهل بكل ما يحدث لهم. نحن في حاجة إلى حياة بأكملها لنجد النص الموسوم ونفكّ رموزه، ولن نقدر أبدًا على التأكد من فهمنا لمعناه".
إنه مغرور هذا الأماديو، متضخّم الذات وإنسانيٌّ ومتبجِّحٍ أيضًا. لا يمكنك أن تقرر إذا كنت تريد أن تحبه أم تكرهه أم تلعنه على مدى تقلّبات الرواية. يتحدّاك في الكلمات التي كتبها وهو يتحدّى نفسه وعقله وروحه وكنيسته.
إنها رواية عن الإخلاص للآخر" اعتقدت حقًا أن أحدنا لن يضيّع الآخر" وكيف يُمكن لهذا الإخلاصِ أن ينكسر. "وشعور المرء بأنه آمن داخل شخص آخر انكسر هو أيضًا وبشكلٍ مفاجئ".
"في شبابنا، نعيش حياتنا كما لو أننا خالدون. ومعرفتنا بطبيعتنا الفانية تطوف حولنا مثل شريط ورقّي صغير لا يكاد يلمس جلدنا. متى يتغيّر هذا في الحياة؟ متى يبدأ هذا الشريط في الضغط علينا بشدّة لينتهي إلى خنقنا؟ وكيف نميّز ضغطه الناعم والصلب في آنٍ واحد، الضغط الذي يبدو أنه لن يرتخي أبدًا؟ كيف نميّزه عند الآخرين؟ وكيف نميّزه في داخلنا نحن؟"
هذه الرواية هي ذلك الشريط الورقيّ الصغير.