الخروج على الطّابع الغنائي للقصيدة
تُعتبَر الغنائيّة واحدةً من أهم السّمات الشعرية، التي طبعت القصيدة العربية طوال عصورها المختلفة. لقد كانت الغنائية سبباً في إثراء القصيدة، بموجة هائلة من الصّبوات والأحلام، بحيث باتت هذه القصيدة قادرة على التّوغّل في روح من يقرأها. هذه الخاصيّة مكّنت الشّعر من الخلود، وهناك قصائد كثيرة وأبيات بعينها، مكتوبة منذ أزمنة بعيدة، لا نزال ونحن نقرأها عرضةً للارتجاف، لنقرأ هذا البيت للشاعر الجاهلي (النَّمر بن تولب):
"ألا يا ليتني حجرٌ بوادٍ أقامَ وليتَ أمّي لم تلدني".
إنّنا حين نقرأ هذا البيت، فإننا نصاب بالوحشة، إذ تتنزّل علينا مأساة الوجود كلّها.
على الرّغم ممّا للغنائية من خصائص مهمّة للشّعر، فإنّ لها بعضَ المثالب، ومنها انفلاتُ القصيدة وتشظّي مفرداتها، تبعاً لما تثيره روائح الكلمات من أصداء، لكنّ أهمّ هذه المثالب أنّ النّصّ الشّعري ربّما يمتدّ ويطول في بعض الأحيان، دون مبرّر موضوعي. لم يقتصر وجود هذه المشكلة على شعر التّراث، وإنّما أصابت الشّعر المعاصر أيضاً، إلى الحدّ الذي يمكن أن نقول فيه، إنّ عدداً من أهمّ شعراء الحداثة العربية استسلموا لتطويل قصائدهم تحت غواية الأحاسيس التي تتهاطل من الكلمات.
من أجل وضع حدّ لهذه المشاكل، فإننا يمكن أن نفتح النّصّ الشّعري على أفق المشهد. السّرد أيضاً يمكن استخدامه في الشّعر من أجل وضع حدّ للتكرار. لعلّنا نجد في شّعر التراث القديم مثل هذه التقنيات، ولكنّها لم تكن تقنيات مكرّسة في الكتابة الشعرية في ذلك الوقت. كانت تلك المشاهد ترد (أحياناً) من خلال بيت شعري، أو من خلال عدد من الأبيات، يقول الشاعر الشّريف الرّضي:
"إذا ما دخانُ النّدِّ من ثوبها علا على وجهها، أبصرتَ غيماً على شمسِ".
البيت السابق فيه مشهد شعري جميل ومتحرّك، ومن خلاله تنطبع في ذاكرتنا صورة المرأة التي جرى تبخير ثوبها بعود النّد، حيث أخذ الدخان يصعد حتى بلغ وجهها، فكان يمرّ على الوجه كما يمرّ الغيم على الشمس.
النّقلة الجديدة التي حدثت في توظيف الحالة المشهدية، في الشّعر العربي المعاصر، جاءت من العراق. على أيدي عدد مهمّ من الشّعراء، نذكر منهم: عبد الوهاب البياتي، حسب الشيخ جعفر، سعدي يوسف، يوسف الصّائغ. ولعلّ هذا النّمط من الشعر قد انتقل تأثيره إلى النّصوص العربية بفعل ثقافة الشعراء العراقيين، واطّلاعهم على خارطة الشعر العالمي، حيث نجد أنّ تيار قصيدة المشهد هو تيار معروف وله ممثّلوه في العالم، مثل الشاعر الإسباني فدريكو لوركا، واليوناني يانيس ريتسوس، والفرنسي جاك بريفير.
من خلال قصيدة المشهد، أصبح النصّ الشعري يتحرّك وفق مدار مدروس، يبدأ بنقطة وينتهي بنقطة، وما بين نقطة البداية ونقطة النهاية يسير النّصّ، حيث ننتقل من صورة إلى صورة، ليتضح في النهاية المشهد الشعري العام، دون أن تكون هناك زوائد من الكلمات. هذه قصيدة مشهدية للشاعر التشيكي فلاديمير هولان، بعنوان عودة الغائب:
"بعد غيبة طويلة،
وصل المسافر البيت.
دلفَ إلى الداخل، فراعَهُ اصفرارُ السّتائر.
جذبت انتباهَهُ تلك الطاولةُ الصغيرةُ
التي يعلوها الغبار.
كان ثمة فنجانان من القهوة هناك
وفجأة
تسمَّرت عيناه على واحدٍ منهما، صَبَغَتْ حافته
لطخةٌ من أحمر الشّفاه".
وهكذا فالقصيدة السابقة تنتقل بنا من صورة إلى أخرى، من خلال عملية السّرد، حتى تقودنا أخيراً إلى المسافر الذي يحدق في الفنجان المصبوغ. هنا القصيدة تهجس أكثر مما تقول، ولعلّ الشاعر أراد من خلال ذلك، أن يلفت نظرنا تجاه الرجل الذي تفور في رأسه الذّكريات.
لعلّ هذا البنية المشهدية في الشّعر متأُثّرة ببنية المشهد السينمائي، فنحن حين نقرأ القصيدة السابقة فإننا نتخيّل مشهداً سينمائياً يتشكّل شيئاً فشيئاً، ولعلّ المفاجأة تكمن فيما يخبّئه السّطر الأخير، حيث يعثر الرجل الذي دخل البيت وتفقّده على فنجانين متروكين على الطاولة، وأحدهما كان مضمّخاً بروج امرأة. مثل هذه المرأة قطعاً ستكون زوجته، أو حبيبته. هو لم يخبرنا من تكون، ولكننا نستدلّ عليها من خلال تلك اللطخة الحمراء التي على الفنجان. إنها من مخلّفات امرأة ما يعرفها الشاعر كانت هناك تجلس على الطاولة، وربّما كان الفنجان الآخر له، حيث كان يحتسي القهوة معها.
القصيدة القصيرة أيضاً التي سُمّيتْ بقصيدة التوقيعة، يمكن لها أن تكون خياراً آخر، للتخلّص من مأزق الطّول والتّكرار الذي تقع فيه القصيدة الغنائية في العادة. ولقصيدة التوقيعة هنا شروطها، ومن هذه الشروط الكثافة الشعرية، بحيث نستخدم أقل عدد من الكلمات في بناء القصيدة، ومثالنا في ذلك قول المتصوّف النفري: "كلّما اتّسعت الرّؤيا ضاقت العبارة".
تاريخيّاً كانت القصيدة عند العرب هي تلك التي تكون أبياتها سبعة أبيات وأكثر، أمّا إذا كان عدد أبيات النصّ الشعري دون ذلك فكان يسمّى مقطوعة شعرية. وفي اعتقادي أنّ النّص قليل الأبيات أو الأسطر يمكن أن يكون أحياناً أفضل من نصّ غنائي طويل ضعيف ومرهق لقرّائه.
التجديد في بِنية القصيدة أمر بالغ الأهمية، والقفز في الفضاءات الحرّة من أجل المغامرة والطيران شرط يتطلّبه الشّعر. ومِمّا يُفرح أنّ البشرية لم تضع تعريفاً محدداً للشعر، لذلك بقي سقفه عالياً، أو الأصح بقي الشعر دون سقف.