الحكاية الساحرة
منذ كنا صغاراً كانت الحكاية الشعبية تشغلنا، تشدُّنا إليها بقوة سحرها وجمالها، وبما تثيره في دواخلنا من خيالات ومشاهد جمالية ممتعة.
كنا نستمع إلى جدتي، وهي تقص علينا العديد من الحكايات التي تحفظها، فهي قاصة بارعة في هذا المجال، تعرف كيف تجعلنا نستمع إليها بكل حواسنا، فنجلس حولها، وقد عمَّ الهدوء في البيت، وتركنا كل ما يشغلنا متفرِّغين لسحر الحكاية.
كانت جدتي تعرف كيف تجذبنا إلى الحكايات بأسلوبها الرائع في السرد، فتمتحن بذلك قدرتنا على الانتباه والتركيز والاستيعاب، وتردُّ على أسئلتنا التي تواكب الصور الغريبة، وخاصة فيما يتعلَّق بالأحداث غير المألوفة بالنسة لنا. فعلى الرغم من أننا كنا نطلب منها إعادة الحكاية أكثر من مرَّة، إلا أنها كانت تعيدها بطريقة مختلفة في كلّ مرة، وتضيف إليها نكهة من حلاوة سردها، إضافة إلى أسئلتها المتجددة أثناء سردها الحكاية. فهي تعرف مواطن القيم والأخلاق والعبر التي تتضمّنها، وتعرف قدرتها على تحريك خيالنا ومدى تأثرنا بها، وخاصة عندما تجذبنا إلى النوم مبكِّرًا، من أجل الاستمتاع بإكمال رسم الحكاية بريشة خيالنا.
في فترة معينة من حياة جدتي، وكنا ما نزال صغاراً، بدأت تلبس زيَّاً قروياً، تلفُّ حول رأسها قطعة قماش سوداء مطرَّزة بالخرز وحبات السيلان يُقال لها (قزيَّة) وهي قماش من حرير دود القزِّ الطبيعي. فتزيدها طولاً على طول، وهذا ما جعلني أخاف منها، فأختبئ لحظة قدومها، علمًا أنها كانت تسأل فور دخولها البيت، وتقول: أعرف أنها تخاف من (القزية).
وفي إحدى المرَّات حين علمت بقدومها، اختبأت في الخزانة، ولما دخلت جدتي الغرفة سألت عني، وكانت تعرف أين اختبأت، فقد أخبرتها أمي بمكاني. نادت جدتي على إخوتي وقالت تعالوا لنحكي حكاية. فجدتي تعرف نقطة ضعفي، عندها فتحت باب الخزانة على مهل، فنادتني، وقد خلعت (القزيَّة) قائلة: كرامة لك لن ألبسها بعد الآن أمامك. وفعلاً صدقت جدتي بوعدها، وبعد سنوات عدة سألتها لماذا لا تلبسين (القزيَّة) لقد كبرت، وما عدت أخاف منها؟
ضحكت قائلة: لم أعد أحب لبسها، من بعد ما تأكَّد خوفك منها.
لم نكن نتوقَّع أن أحلامنا التي غذَّتها الحكايات الشعبية قد تتحقَّق يومًا ما، فها هو الجوال يقوم مقام المرآة السحرية، والطائرة تقوم مكان بساط الريح، والإنترنت قد سيطر بإمكانياته المتنوِّعة على كل خيال.
علمتنا الحكاية مواطن الاختلاف بين الخير والشر، والأخلاق الحسنة والأخلاق السيئة، كما علمتنا حب المغامرة، وكيف نعمل خيالنا في رسم أحلام اليقظة ممتعة ورائعة. كما علمتنا كيف ننظر إلى ما يعترينا من مشاكل ونحلُّها بالحكمة والتعقل والصبر.
ونحن نقص الحكايات على الأطفال الذين حولنا، نكتشف أن الحكاية ما زال بريقها يسطع في عيون الصغار، فيضفي على وجوههم البهجة والسرور، حتى إن بعضهم يلحُّون على سماعها أكثر من مرَّة، كما كان يحدث معي شخصيًّا. وهم الآن بأمس الحاجة إلى تلك الحكايات التي لم يمسها الغش أو التزوير، ولم تنحرف عن مسارها الجمالي، ولكن أخطر أمر يصيبها هو الابتعاد عنها. من هنا وجب علينا العمل على توثيقها قدر الإمكان، وإعادة نشرها كتابيًّا لأننا بحاجة ماسة إليها في هذه الأوقات التي أخذ فيها التقدم التكنولوجي عقول الأطفال نحو الخطورة التي لا يدركها سوى من يتتبع مساوئها في أذهانهم وتصرفاتهم أيضًا.
منذ عدَّة سنوات خلت، حدث، أن جدَّتي قد أطالت زيارتها عندنا، فاستغللت هذه الفرصة، فقد فكَّرت في تأليف كتاب أجمع فيه كل الحكايات الشعبية التي حكتها لنا، ونحن صغار. وفعلاً استجابت جدَّتي للفكرة بكل أريحيَّة، وتفاجأت من صفاء ذاكرتها، فهي ماتزال تروي الحكايات وكما كانت ترويها لنا حين كنا صغاراً.
جمعت الحكايات، وكأنني جمعت كنوز الدنيا، والكتاب ما زال لديَّ ينتظر النشر. فقد علمت أنه يجب عليَّ إعداد الكتاب بلهجة سكان المنطقة، وقد كتبته باللغة العربية الفصيحة وهذا الأمر صعب بالنسبة لي جدًّا، صحيح أنني أعرف اللهجة، ولكنني لا أتقنها بشكل جيِّد، هذا أولاً، وثانياً: عندما أكتب الحكاية باللهجة المحليَّة مبتعدة عن اللغة الفصحى أشعر بأن ملكة الإبداع لدي تتأثر، وأنني غير قادرة على الكتابة. وإليكم إحدى الحكايات التي سمعتها من جدَّتي.
حكاية أم صفوة
كان يا ما كان في قديم الزمان، كان هناك ثلاث بنات، الصغيرة منهن تقوم بأعمال المنزل، وخدمة والدتها المسنة، والأخريان كانتا تقضيان الوقت بالكسل، والوقوف أمام المرآة، والخروج في نزهات طويلة، دون أن تهتمَّا بشؤون الأم المريضة، أو بأعمال المنزل.
لم تتأخَّر الصغيرة عن أداء واجباتها المنزلية، من كنس البيت، وتحضير الطعام، وتنظيف الأواني، وجلب الماء من الينبوع، وما إلى ذلك، على الرغم من تجاهل أختيها لها، مما جعل الأم تخصُّها بمحبتها، وتدعو لها بالتوفيق والحظ الطيِّب. وكان أشدُّ ما يحزنها أن أختيها كانتا تطلقان عليها لقب (أم صفوة) لأنها كانت دائماً ملوَّثة برماد الموقد والتنور.
عندما شعرت الأم بدنوّ أجلها، قدَّمت لابنتها الصغيرة حبَّة جوز، وأوصتها بأن تحتفظ بها، فربما تحتاجها يومًا ما.
ماتت الأم، وما زالت الصغيرة مواظبة على خدمة شقيقتيها، والعمل على إرضائهما،على الرغم من جحودهما وتأففهما.
وحدث ذات مرَّة أن السلطان دعا كل أهل المملكة إلى عرس ولده. فتزيَّنت الأختان، ولبستا أجمل ما لديهما من الثياب، ثم قالت إحداهما لأختها الصغيرة باستهزاء:
أم صفوة! ألا تريدين الذهاب معنا إلى العرس؟
قالت الفتاة بحزن: لا، أنا لا أحبُّ الأعراس.
فذهبتا، وبقيت الفتاة في المنزل وحيدة حزينة، تفكِّر بوضعها. قالت في نفسها: لماذا لا أستغِّل فرصة غياب شقيقتي، وأتفقَّد حبَّة الجوز؟
أسرعت إلى صندوقها الذي يحتوي ثيابها البالية، وفتحته بلهفة، أمسكت حبَّة الجوز، ويداها ترتجفان، وما إن مسحتها قليلاً، حتى انفتحت ببطء، ورأت في داخلها خاتمًا رائعًا، فلبسته، وأخذت تتحسَّسه بدهشة، فإذا بدخان كثيف يخرج منه، ويملأجوَّ الغرفة، ويظهر فيه عفريت جميل بثياب بهيَّة، انحنى العفريت أمام الفتاة قائلاً:
(شبيكِ لبيكِ عبدكِ بين يديك، اطلبي، وتمنِّي).
خافت الفتاة، ثم تماسكت مندهشة مبتسمة، وهي تقول:
أريد حصانًا، وسيفًا، وفستانًا، وحذاء، وأدوات زينة: عقدًا، وحلقًا، وأساور، وخواتم... على أن تكون كل ألوانها بيضاء.
وبغمضة عين، كان كل ما طلبته الفتاة بين يديها.
استحمَّت بسرعة، ولبست ملابسها، وتزيَّنت، وامتطت ظهر الحصان، ثم انطلقت إلى العرس.
وصلت أخيرًا، ودخلت القصر، فلفتت أنظار الحضور بجمالها وأناقتها، ولم يعرفها أحد. سارت بين المدعوين بزهو، رقصت، غنَّت، ثم نثرت على الناس حفنة من حبَّات اللؤلؤ والمرجان، وخرجت مسرعة دون أن ينتبه إليها أحد، امتطت حصانها، وعادت إلى البيت. على عجل، نزعت ملابسها، وأعادت الخاتم إلى حبَّة الجوز، ثم وضعتها في صندوقها القديم.
وصلت الأختان تضحكان، وقد غمرت السعادة وجهيهما، اقتربتا من الفتاة محاولتين إغاظتها والكذب عليها.
قالت إحداهما: لماذا لم تذهبي معنا؟ لقد حضر العرس فارس جميل، رقص رقصة رائعة، وغنَّى أغنيات جميلة، ثم نثر حفنة من حبَّات اللؤلؤ والمرجان على الحاضرين.
قالت الأخرى: لقد كانت سهرة رائعة زيَّنها ذلك الفارس الذي شغف قلوب الفتيات.
قالت الفتاة: هنيئاً لكما، أنا لا أحبُّ الأعراس.
في اليوم التالي لبست الأختان، وتزيَّنتا، وذهبتا إلى العرس. أسرعت الفتاة إلى حبَّة الجوز، أمسكت بها، وفتحتها، أخرجت الخاتم، فلبسته. فجأة، ظهر العفريت الجميل، وهو يقول: (شبيكِ لبيكِ عبدكِ بين يديك، اطلبي، وتمنِّي).
طلبت منه أن يحضر لها ما أحضره بالأمس، لكن بلون أخضر.
بلحظات، تحقَّق ما طلبت. استحمَّت، امتطت الحصان، وذهبت إلى العرس، غنَّت، ورقصت، ونثرت حفنة من اللؤلؤ والمرجان على الحاضرين، وعادت إلى البيت مسرعة، وضعت الخاتم في قلب حبَّة الجوز، ثم أخفت الحبَّة في صندوقها بين ثيابها القديمة.
حضرت الأختان، قصَّتا عليها ما قام به الفارس الذي لم يعرف أحد من هو، ومن أين جاء؟
في اليوم الثالث، وكالعادة بقيت الفتاة وحيدة، وبعد أن ذهبت أختاها إلى العرس، استدعت العفريت من الخاتم، وأمرته بإحضار ما طلبته سابقاً، ولكن بلون أحمر.
انطلقت إلى العرس، وقامت بكل ما فعلته في الليلتين السابقتين.
في طريق عودتها إلى البيت، وهي تقطع ضفَّة النهر، ودون أن تشعر، سقطت من قدمها فردة حذائها.
في صباح اليوم التالي، وعندما كان الأمير يسير على ضفَّة النهر، وجد فردة الحذاء الأحمر، عرف أنها للفتاة الجميلة التي شغفت قلبه، وقد كانت تأتي إلى العرس كل يوم بثياب رائعة، وتختفي فجأة.
حمل الفردة إلى القصر، وطلب من أمه أن تبحث عن صاحبة الحذاء، فمن تلبس الفردة، وتأتي على قياس قدمها، فسوف يتزوجها.
طلبت الأم من النسوة أن يخرجن إلى البيوت للبحث عن صاحبة الحذاء التي شغفت قلب الأمير.
لم يبق بيت في المملكة فقيراً كان أم غنيًّا إلا وزارته النسوة حتى فقدن الأمل في العثور على صاحبة الحذاء.
تضايق الأمير، حزن بسبب فشل النسوة في إيجاد الفتاة التي سحره جمالها وأناقتها، وملامح الطيبة في وجهها.
قال لأمه: أمتأكِّدة من أن النسوة تفقَّدن بيوت البلدة كلها؟
قالت الأم: نعم.
قال: وهل ذهبن إلى بيوت الضفة الأخرى من النهر؟
قالت الأم: نعم باستثناء بيت متواضع، بيت أم صفوة، تبدو عليه ملامح الفقر، فمن المستحيل أن تكون صاحبة الحذاء من أصحابه.
تنهَّد الأمير قائلاً: اطلبي من النسوة أن يذهبن إلى هناك حالاً.
على عجل، حملت النسوة فردة الحذاء، وخرجن إلى البيت الذي تسكنه الفتيات الثلاث.
استقبلت الفتاتان الزائرات بترحاب شديد، قاستا فردة الحذاء، فلم تنطبق على قدم أي منهما.
سألت إحدى النسوة أليس لكما أخت ثالثة؟
قالت الكبرى: نعم، هي الآن في الخارج تجمع الحطب، لا تتعبي نفسك، فلن تأتي الفردة على قياس قدمها أبدًا.
قالت الوسطى: نعم، فهي قبيحة، وقدماها كبيرتان.
قالت المرأة: على كل حال، سننتظرها حتى تعود.
لم يدم انتظارهن طويلاً، حتى دخلت الفتاة حاملة حزمة من الحطب فوق رأسها، وضعتها جانبًا، ورحَّبت بالضيوف.
طلبت منها إحدى النسوة أن تقيس فردة الحذاء. وقد عرفتها الفتاة منذ أن نظرت إليها. أمسكت بالفردة لبستها، فجاءت على قياس قدمها تمامًا.
زفَّ الخبر إلى الأمير، فحضر مع أمه، وطلب الزواج من الفتاة أمام الأختين المغرورتين. فظهر الحسد والغيظ على وجهيهما، فكيف لأم صفوة أن يكون لها هذا الحظُّ الطيِّب؟!
أقيم عرس للأمير والفتاة سبعة أيام بلياليها، لا أحد يأكل أو يشرب إلا من عرس ابن السلطان.
هذه الحكاية بالتحديد، كان لها أثر بالغ في نفسي، والآن، وأنا أقصها على الصغار ألمس التأثير والرغبة ذاتهما في سماعها أكثر من مرَّة، والتجربة خير برهان.
لذلك أرى أهمية توثيق هذه الكنوز الثمينة، لأنها متناقلة في أكثر الأحيان شفويًا، وهذا يعرضها للتلاشي والنسيان، وخاصة أن جدَّات هذه الأيام منشغلات بالانترنت، وكذلك الأطفال، فلن يخطر ببال أحدهم أن يطلب سماع أي حكاية في ظل التقدم التكنولوجي المتسارع.