الشّاعرُ الجديد، وضبابيّةُ المشهدِ الشّعريّ
تعاني الأجيال الشّعرية العربية الجديدة من ضبابيّة المشهد الشّعري، ففي العِقدين الأخيرين اختلط الشّعر باللاشعر، وأصبحنا أمام طوفان هائج من النّصوص المنفلتة، ليس من أفقها الجمالي فقط، ولكن من اللغة نفسها التي تُكتَب بها هذه النّصوص.
في ظلّ التّحوّلات الكبيرة التي باتت تشهدها عملية النّشر، اختفت المنابر الورقية، التي كانت تنشر الشعر فيما مضى، وذلك مقابل المواقع الإلكترونية وصفحات التواصل الاجتماعي التي برزت في السنوات القليلة الماضية، وأخذت على عاتقها نشر أعداد هائلة ومتفاوتة المستويات من القصائد. ثمّة مجلات ورقية مثل: الآداب، مواقف، الكرمل، الأقلام، والموقف الأدبي، كان لها دور كبير بالتعريف بنتاج الشعراء العرب. كانت هناك معايير فنيّة تحتكم إليها تلك المجلات عندما تنشر النّصوص، ومن هنا لم يكن الأمر سهلاً على شاعر ضعيف الموهبة مثلاً أن ينشر في هذه المجلّة أو تلك. حتى الشعراء الجدد من أصحاب المواهب الجيدة، فقد كانوا بحاجة ماسّة إلى إثبات جدارتهم أمام تلك الأسماء الشعرية الكبيرة التي شاعت في ارجاء العالم العربي. الآن ومن خلال صفحات الفيسبوك مثلاً أصبح بإمكان أيّ شخص أن ينشر النّصّ الذي يريده، سواء كان قصيدة جيدة أو رديئة أو لا علاقة له بالشعر. بالمقابل فإننا نجد أسماء شعرية مهمّة، لكنّها وبسبب علاقتها الفاترة بالإنترنت، وبالفيسبوك على وجه الخصوص، نجد أنها غائبة عن المشهد الشّعري. أتذكّر هنا الشّاعر الكبير الراحل محمود درويش، فهو لم تكن له صفحة خاصّة به في الفيسبوك، وظلّ حتى وفاته يفتقد لهذه الصفحة.
مسألة أخرى لا بدّ من الإشارة إليها، تتعلّق بغياب النّقد عن أي دور له في تقييم النّصوص. وعلى الرغم من وجود هذا الغياب تاريخياً، إلا أنّه لم يكن بمثل هذه الصورة التي هو عليها الآن. الواقع أنّ النّقد استقال من مهمّته. وهكذا يزداد المشهد ضبابيّةً أمام الشاعر الجديد، فهو يكتب ما يشاء دون أن يقول له أحد شيئاً عمّا يكتبه.
نضيف إلى ما ذكرناه الدّور المربك الذي تقوم به المناهج المدرسية والجامعيّة العربية على حدٍّ سواء، في تعريف الطلّبة بالشعر. لنعترف أنّ النّصوص التي تقدّمها هذه المناهج، هي نصوص محنّطة، يقصدُ من وَضَعَها أن يُعَلّم الطلبة من خلالها الأخلاق والحكمة، وهي تصوّرات لا تكاد تمتّ إلى الشعر بصلة. من جهة أخرى فإنّ النصوص المطروحة في غالبيتها العظمى هي نصوص مقتطعة من شعر التراث، أمّا شعر الحداثة العربية، والذي تكرّس منذ أواخر الأربعينيّات حتى الآن، فهو لا يحظى سوى بهوامش قليلة في هذه المناهج، هوامش تكتفي عادةً بالتّعريف بشعر الروّاد، وتغفل عن كلّ شعر سواه.
بسبب ذلك كلّه يرتبك الشعراء الجدد، ويتشتّت فهمهم لطبيعة الشّعر، وكالعادة تنقسم صفوفهم، ويتوزّعون على الفئات الثلاث المعروفة: قصيدة النّثر، وتضم النسبة الأكبر منهم. قصيدة التفعيلة، والقصيدة العمودية. ومن المؤسف أنّ كل فئة سوف تتخندق في موقفها باعتباره الموقف الأهم الذي يعبّر عن حقيقة الشعر، كما أنها لن تدّخر جهداً في مديح منتسبيها، وكيل الاتهامات لشعراء الفئتين الأخريين. وقد اتضح ذلك في عدد من الملتقيات الشعرية العربية التي أقيمت مؤخّراً، فبعض هذه الملتقيات قام بإقصاء شعراء قصيدة النثر عن أنشطته، وبالمقابل فثمّة مؤتمرات خاصّة بقصيدة النثر، عُقِدَت في القاهرة وبيروت، منعت أي مشاركة لمن يكتبون القصيدة الموزونة، سواء كانت قصيدة عمودية أو قصيدة تفعيلة.
ما الحل إذن؟ وكيف يمكن معالجة أمر هذه البلبلة التي تعكّر مرآة الشّعر؟
من المؤكّد أنّ المشاكل التي تحدّثنا عنها هي مشاكل كبيرة، ليست مرتبطة بالشعر وحده، بقدر ما هي مرتبطة بالثقافة العربية، وبالأزمة المعاصرة التي تمرّ بها هذه الثقافة. مثل هذه المشاكل لا يُمكن حلّها آنيّاً، غير أنّ هناك بعض المقترحات، التي ربّما تشكّل نوعاً من الحلّ.
يخطر في بالي الآن معهد غوركي، وهو معهد أدبي معروف في موسكو. أنشئ في العام 1933، بمبادرة من الكاتب الروسي مكسيم غوركي. وقد أخذ المعهد على عاتقه العناية بالكتّاب والمبدعين الجدد، من داخل الاتحاد السوفيتي ومن خارجه، وقد تخرّج منه عدد كبير منهم، وأصبحوا كتّاباً لامعين فيما بعد. لماذا لا يتم تأسيس معاهد أو مؤسسات مشابهة في العالم العربي، تُعنى بالشعر تحديداً وبالكتابة الإبداعية بشكل عام، على أن يكون طاقم المحاضرين فيها من كبار الشعراء والنّقّاد؟ طبعاً مثل هذه المعاهد لا يمكن لها أن تصنع موهبة، ولكن يمكن لها أن تأخذ بيد الشاعر الموهوب، فتوجّهه، وتطلق مخيّلته للكتابة.
ربّما كان لإنشاء اتّحادات الكتّاب العربية، تأثير إيجابي في هذا المجال. ولكنّه كان تأثيراً محدوداً، إذ إنّ جلّ عملها كان منصبّاً على الندوات الأدبية والأمسيات الشعرية. في العقود الثلاثة الأخيرة أنشئت مجموعة من بيوت الشّعر في عدد من الدول العربية، وقد أصبحت تقوم بين فترة وأخرى بتقديم ندوات تعليمية خاصّة بالشّعر. وفي هذا المجال لا بدّ من الإشادة بالجهود الطيبة التي يقوم بها بيت الشّعر في الشارقة، حيث يقوم بعقد دورات تثقيفية متميّزة بكتابة الشّعر وتذوّق النّصّ الشّعري. هناك أيضاً أكاديمية الشّعر في أبوظبي، والتي أخذت على عاتقها تقديم مساقات خاصّة من الندوات والدّورات التي تعنى بأصحاب المواهب الشعرية والمهتميّن بالشعر، وقد قطعت هذه الأكاديمية منذ بداية تأسيسها في العام 2007، أشواطاً جميلة على طريق خلق جيل مثقّف بالشعر.
بقي هنا أن نتحدّث عن الجامعات في العالم العربي، وعن الدّور الكبير الذي يمكن أن تقوم به في سبيل الأخذ بأيدي الطلبة من أصحاب المواهب الشّعرية، ليتمكّنوا من بلورة فهمهم للنّصّ الشعري من جهة، ولأسرار الكتابة الشّعرية من جهة أخرى، وذلك من خلال إنشاء أقسام خاصّة بهؤلاء الطلبة الموهوبين، حيث يمكن أن يقوم على تدريسهم شعراء معروفون ومكرّسون في الأوساط الشّعرية العربية.