أتحدّاك
قَرَأَ بَعضُنا خَبَرَ وفاةِ أنتونيلا، الطّفلةِ الإيطاليةِ البالغةِ من العُمْرِ عَشْرَ سنواتٍ، التي لاقتْ حَتْفَها بِسببِ مشارَكَتِها في لُعْبَةِ تَحَدٍّ، على تطبيقِ تيك توك، تُعرَفُ باسمِ "الوشاح"، وَتَقْضي بأنْ يَمْتَنِعَ الأطفالُ عن التّنفُّسِ إلى أنْ يَفْقُدوا وَعْيَهم، حتى يعيشوا تَجْرِبَةَ الشّعورِ بِمشاعِرَ قويّةٍ جدًّا. ومعَ أنّ الخَبَرَ الذي تَداوَلَتْه مُعْظَمُ المواقِعِ الإخْبارِيّةِ لا يشيرُ إلى هُوِيّةِ الطّرفِ الآخَرِ الذي شاركَ أَنْتونيلا لُعْبَةَ التحدي هذه، إلا أنّ الخَبَرَ لَفَتَ انْتباهيَ كثيرًا، لا بِسَببِ تَطبيقِ تيك توك، وعُزْلَةِ الأطفالِ في أيامِنا هذه داخلَ عوالِمِ التّطبيقاتِ والألعابِ، لكنه لفتَ نظري بسببِ كلمةٍ واحدةٍ فقط "تحدٍّ".
أخذتني هذه الكلمة إلى ذكرى بعيدة جدًّا، في أول تجربة تدريس لي في المدارس، حين خرجت رِفقةَ زميلة لي في رحلة ترفيهية، مع مجموعة من طالبات الصف الثامن، إلى مزرعة زميلتي في منطقة العوير، حيث انقلبت الرحلة الترفيهية إلى ما يشبه المأساة، بسبب تحدٍّ وقع بين طالبتين، بأن تشرب إحداهما زجاجة الصلصة الحارّة "الدقّوس" كاملة، مما أدى إلى إصابتها بآلام شديدة في المعدة، اضطررنا على إثرها إلى نقلها إلى المستشفى.
لا يخفى على أحد أنّ ألعاب التحدّي بين الأطفال واليافعين منتشرة منذ زمن طويل، وأنّها تضفي على أوقاتهم وحياتهم لونًا من الإثارة والمرح، وتمنحهم إحساسًا بالقوّة والثقة، وشعورًا بالقبول والانتماء. لكنّ هذه الألعاب قد تنقلب في كثير من الأحيان إلى مشكلات ومآسٍ يدفع الطفل أو المراهق وأسرته ثمنًا غاليًا لها.
تقع ألعاب التحدي التي تحدث عادة بين الأطفال والمراهقين ضمن ما يعرف بمصطلح "ضغط الأقران"، الذي يمكن تعريفه بأنه "التأثير المباشر على الطفل أو المراهق من قبل أقرانه، الذي يدفعه إلى تغيير قيمه أو معتقداته أو سلوكياته لتتوافق مع قيم المجموعة أو معتقداتها أو سلوكياتها، لكي يثبت لهم قدرته أو قوته، فيتم قبوله بينهم". وضغط الأقران قد يكون سلبيًّا، وقد يكون إيجابيًّا بحسب طبيعة المجموعة الضاغطة وتوجهاتها.
وتشير كثير من الدراسات إلى أنّ الأطفال الأكثر عرضة لضغط الأقران، هم الذين تكون أعمارهم بين 11 إلى 16 سنة؛ فالطفل في هذه المرحلة يبحث عن الانتماء، والقبول بين أقرانه، ويكون تأثير الأقران في هذه المرحلة أقوى بكثير من المرحلة التي قبلها والتي بعدها، ويصنّف ضغط الأقران على أنه سبب رئيس، ومساهم قوي في بدء استخدام المخدرات بين المراهقين، خاصة في ظل غياب التواصل الأسري، أو قلّته.
وقد حاول عالم النفس الاجتماعي ويندي ترينور أن يقدّم تفسيرًا لعملية "ضغط الأقران" سمّاه بــ "تأثير تحوّل الهوية"؛ فبيّنَ أنّ ضغط الأقران يعمل على النحو التالي: يواجه المراهق تهديدًا خارجيًّا بعدم القبول من المجموعة بسبب عدم التوافق معها في فكرة أو سلوك ما، فيلجأ إلى الإقدام على ما يجعله مقبولًا من قبل أفراد المجموعة، وبمجرد ما يتم ذلك ينتفي "التهديد الخارجي"، ويبرز "الصراع الداخلي"، لأن المراهق يكون قد انتهك قيمة من قيمه أو معتقَدًا من معتقداته. وللتخلص من هذا الصراع قد يغيّر المراهق معتقده أو أفكاره ليريح نفسه، وينخرط تمامًا مع المجموعة، أو قد يقرر هجر المجموعة تمامًا متمسكًا بالتوافق مع نفسه ومبادئه. لكن الذي يحصل أنّ معظم المراهقين يستسلمون لضغط المجموعة، خاصّة إذا استمرّ هذا الضغط، وعبّر عن نفسه بصور شتّى كالتحدي والسخرية والاستهزاء.
وليس شرطًا أن يكون ضغط الأقران مباشرًا، خاصة في عالمنا اليوم، الذي تتاح فيه الفرصة للأطفال والمراهقين لمتابعة مئات الحسابات العربية والغربية، لمن هم في مثل أعمارهم، أو لمن هم أكبر منهم. فهذه المتابعة في حدّ ذاتها تشكّل ضغطًا اجتماعيًّا ونفسيًّا وعاطفيًّا غير مباشر على الطفل أو المراهق، لأنّها تضع له معايير يقيّم بها نفسه قياسًا على هؤلاء الذين يتابعهم، ويعجب بنمط حياتهم، وطريقتهم في اللباس والكلام وغيره.
لن يستطيع الأهل أن يغلقوا على أبنائهم الأبواب، ولا أن يمنعوا هذا السيل الإلكتروني الجارف من أن يصل إليهم بطريقة أو بأخرى، ولن يكون هذا السبيل حكيمًا بأي حال من الأحوال. لكنهم يستطيعون أن يفتحوا الأبواب بينهم وبين أبنائهم من خلال الحوار، وتبادل الأفكار، والجلسات العائلية المشتركة. ويستطيعون أن يكونوا ملاذًا آمنًا دائًما لأبنائهم. وقد يكون مفيدًا للأبناء أن يتحدث معهم الآباء عن مفهوم "ضغط الأقران"، وألعاب التحدّي، ويشرحوا لهم أنّ السعي إلى تقدير الآخرين لنا، وإعجابهم بنا طبيعة بشرية، لكنه يجب ألا يكون على حساب ما نؤمن به نحن، ولا على حساب رؤيتنا للصواب والخطأ التي نستمد منها القوّة الحقيقية لقراراتنا وتصرفاتنا.
إنّ الأسرة هي المسؤول الأول عن حماية الأطفال، وتوعيتهم، ولعلّنا لن نستطيع أن نخترق الحجب إلى عوالم الصغار في هذا الوقت الصعب إذا لم نصغ لهم بقلوب مفتوحة، ونتقبل اختلافهم عنّا، ونحاول أن نلتقي بهم دائمًا في المنطقة الآمنة التي تحترم كيانهم، وتعطف على ضعفهم، وتتفهم أفكارهم ورغباتهم.
أودّ أن أشكر كاتبة المقال الدكتورة لطيفة الفلاسيّ، وهي الّتي قدّمت للّغة العربيّة ما لا تختصره الكلمات هنا.
مقال علميّ اجتماعيّ تربويّ، يحللّ مشكلات كبيرة تواجه الأبناء في هذه المرحلة المصيريّة من حياتهم، ويضع الحلول المناسبة لها.
يحتاج القارئ ان يعيد قراءة المقال، ليقف على كلّ أفكاره تحليلًا ًودراسةً؛ فهو مهمٌّ جدًّا لأنّه يتحدّث عن شربحة أبنائنا اليافعين الذين ينبغي لنا مراقبتهم وإنقاذهم من ضغط الأقران السّلبيّ.
كلّ الشكر لكاتبة المقال الدكتور لطيفة، ولدار النّشر الموقّرة.
ما شاء الله يا دكتورة/ مقال رائع جدًا؛ أحسنتِ فيه الاختيار والتعبير والوصف ووضعت يدك على الداء والدواء