أبناؤنا واللغة العربية

 

يتفق الباحثون على أهمية اللغة الأولى للأطفال؛ إذ تشير نتائج الكثير من الدراسات أن اللغة الأولى هي الأساس الذي يمهد لتعليم مهارات كثيرة ومهمة بشكل أفضل. وعلى الرغم من ذلك فإنّ ظاهرة التحدث باللغة الإنجليزية صارت منتشرة بين أطفالنا انتشارًا كبيرًا، يرافقه، في الوقت نفسه، ضعف مهارات التحدث والتعبير باللغة العربية. والكلّ يشتكي ويظهر انزعاجه من هذه الظاهرة، ولكنْ الحال باقٍ على ما هو عليه، والتغيير يبدو بعيد المنال. استياء الآباء والأمهات من هذا الوضع مؤشر جيد ودليل على وعيهم بأن الأمر يحتاج إلى وقفة وتأمل.

تحديات كثيرة تواجهني اليوم في تربية أبنائي الصغار لم تواجهني مع أبنائي الأكبر سنًا، الذين بذلت معهم جهودًا كثيرة أثمرت نتائج طيبة مُرضية تُشعرني بالفخر والامتنان، لكنّ الحياة وبعض المسؤوليات والظروف شغلتني وحالت دون تكرارها مع عمر وسارا الصغيريْن، فكانت النتائج وخيمة للأسف. لا أبريء نفسي ولا أريد أن ألقي باللوم على الأسباب والظروف مهما كانت.

قلق وانزعاج كبيران كانا ينتاباني عندما كنت أرى عمر وسارا يتحدثان معنا بالإنجليزية طوال اليوم، ولا أعرف إن كان هذا الشعور المزعج ينتاب غيري من الأمهات. لكني عندما كنت أطلب من صغيريَّ التحدث بالعربية كانا يقفان أمامي عاجزيْن عن التعبير. فكنّا نستسلم جميعًا لهذا الواقع الذي فرض نفسه علينا، لتتسيّد الإنجليزية الموقف وتصير هي لغة التواصل اليومية بيننا.

كنت أشعر بإحباط كبير، منتظرة معجزة إلهية تحدث كي ينطلق عمر وسارا بالتحدث بالعربية، حتى أدركت أنني إن لم أبدأ أنا التغيير بشكل مدروس وفق خطة تدريجية فلن يتغير شيء. التغيير يأتي من الداخل دائماً. الخطوة الأولى لمعالجة المشكلة هي وضع اليد على الأسباب والاعتراف بالخطأ والتقصير بدلًا من اللوم وجلد الذات، بالإضافة لوضع خطة إستراتيجية وقرارات مساعدة.

سأقف في هذا المقال على بعض الأسباب التي أدت لهذه الظاهرة في منزلي ومع صغيريّ لعلها تكون مفيدة لغيري من الآباء والأمهات فيتجنبوها في وقت مبكر مع صغارهم، ثم سأذكر بعض التغييرات التي قمت بها والقوانين الجديدة التي اعتمدتها في المنزل لتقوية مهارات اللغة العربية لدى صغاري.

الخطأ الأول الذي وقعت فيه كان اختيار حضانة جيدة، لكنها لا تدعم اللغة العربية، دخل عمر الحضانة وعمره سنتان وأربعة أشهر وكان لا يتحدث حينها، فبدأ يتعلم الكلمات الإنجليزية من معلمة الحضانة، وعندما كان يعود إلى المنزل كنا جميعًا نتفاعل معه عندما يحدثنا بالإنجليزية بالإنجليزية أيضًا، ولم أكن أدرك حينها أنّ هذه الطريقة هي التي ستجعله عاجزًا تمامًا عن التحدث بالعربية لاحقًا.

في ذلك الوقت كنت أكمل دراساتي العليا إلى جانب عملي في وظيفة بدوام كامل، فلم أُعر الموضوع أهمية كبيرة للأسف. وبعد مرور سنتين هدأت وتيرة الحياة معي قليلاً، فاستيقظت على واقع مؤلم، فابني لا يتحدث العربية، وانتقلت العدوى لسارا لأنها ترافق عمر معظم الوقت بحكم تقارب العمر بينهما وهو الأمر الذي لم أكن لأحبّه أو أشجّعه أو أتقبّله على الإطلاق.

وعندما أقارن وضع عمر وسارا بوضع علياء وعائشة اللتين سجلتهما في حضانة تدعم اللغة العربية مع دراسة حصة واحدة في اليوم باللغة الإنجليزية، أجد أنّ ذلك كان كافيًا جدًّا لتأسيسهما وتعليمهما أساسيات اللغتين التي تحتاجانها في عمرهما. بالإضافة إلى حرصي الشديد، في ذلك الوقت، على التحدث بالعربية في المنزل ومشاهدة برامج التلفاز بالعربية أيضًا.  وأذكر أنه عندما كانت علياء في الروضة الأولى سألتني مدرسة اللغة الإنجليزية بعد أيام قليلة من بدء الدراسة إن كنا نتحدث الإنجليزية في المنزل؟ فأنكرت ذلك، فرفعت حاجبيها مستغربة، وقالت إنها لا تواجه أي مشكلة مع علياء لأنها تستوعب التعليمات وتتفاعل معها بالإنجليزية بطلاقة. فعدم تعليم الإنجليزية في عمر مبكر مع علياء وعائشة لم يؤثر سلبًا على اكتسابهما اللغة الإنجليزية فيما بعد، فهما اليوم متمكنتان من مهارات اللغتين بمستوى عال جدًّا.

أما بالنسبة لعمر وسارا فبالإضافة إلى اختيار الحضانة التي تعتمد اللغة الإنجليزية فقد كانا يشاهدان برامج الأطفال في التلفاز باللغة الإنجليزية أيضًا، ويتحدثان مع المساعدات في المنزل باللغة الإنجليزية، والسبب الأهم هو تقصيري أنا كأم وعدم تدارك الأمر في بدايته.

بدأنا تدارك الوضع قبل ثلاث سنوات مع عمر، فصرنا نحدثه باللغة العربية في المنزل، لم يخل الأمر من التحديات، فكنا ننسى أحيانًا ونتذكر أحيانًا أخرى، وهو أيضًا لم يكن يستجيب دائمًا، وغالبًا ما كان يجيب بالإنجليزية، لكننا كنا مرنين معه، وأخذنا الأمر مأخذًا فيه سعة صدر، وتدرّجنا معه، ونحن نذكّره ونذكّر أنفسنا بضرورة الالتزام بالتحدث بالعربية في المنزل، وأن نساعده عندما تخونه الكلمات. وشيئًا فشيئًا زادت حصيلته اللغوية. كما أن أحد العوامل التي ساعدتني كثيرًا كان تعاون المدرسة ومساعدة المدرسات، فتحسنت مهارات التحدث بالعامية عنده كثيرًا مع التحاقه بالمدرسة، بالرغم من ضعف التعبير في بعض المواقف، فكان يستنجد بمفرداته الإنجليزية.

أما عن مهارات القراءة فقد كان يعرف الحروف وأصواتها والحركات جيدًا، وقراءته بالعربية كانت جيدة، لكنه كان في كثير من الأحيان لا يفهم ما يقرأ، وهذا مؤشر ضعف في مهارات الفهم والاستيعاب خاصة في مادتي التربية الإسلامية والتربية الوطنية.

أشارت علي إحدى صديقاتي المختصات باللغة العربية أن هذه المهارة تتحسن في سياقات الحوارات التي يسمعها أو يقرؤها بالعربية. وبالتالي كان علينا الإكثار من قراءة القصص العربية ومشاهدة برامج التلفاز باللغة العربية بدلاً من الإنجليزية. وعلى الرغم من أن معظم هذه البرامج متوفرة بدبلجة عربية فعمر كان يغير اللغة إلى الإنجليزية في كل مرة بعد مرور نصف ساعة تقريبًا، وباءت كل محاولاتي في جعله يشاهد البرامج بالدبلجة العربية بالفشل. وعندما كنت أتحدث معه وأشرح له الأسباب بحب ولغة حازمة، كان يستمع لي ويعدني بأنه سيخصص بعض الوقت لمشاهدة البرامج المدبلجة بالعربية، لكنه كان ينسى في الغالب.

وفي هذا المفترق كان علي أن أجد حلاً آخر فقررنا تغيير جهاز الرسيفر، وإلغاء القنوات التي تعرض البرامج الإنجليزية، فصار أمامه خيار واحد فقط، هو متابعة قنوات الأطفال العربية مثل براعم وقنوات أخرى.

وفور خروج الفنيّ من المنزل بعد تغيير جهاز الرسيفر جاء عمر يبحث عني ليطلب مني تغيير القناة، فقلت له إن هذه القنوات هي التي يستطيع متابعتها فقط، فقال لي: لكني لا أريد متابعة هذه القنوات، فأجبته إذن يمكنك الذهاب للعب بألعابك. قبل الأمر على مضض، وصار يشاهد القنوات العربية، لكنه بقي يطالب بعودة البرامج السابقة وباللغة التي اعتاد عليها. لجأ إلى أخته علياء، لكنها أيضًا أوضحت له بأنها لا تستطيع تغيير القنوات، وحاول هو الاستكشاف من خلال جهاز التحكم فلم يستطع، وشيئًا فشيئًا بدأت القنوات العربية تعجبه واعتاد عليها، فتحسنت لغته الفصيحة كثيرًا. وأستطيع أن أقول إن عمر يتحدث اليوم بالعربية في المنزل بنسبة ٧٠٪ وهذا إنجاز كبير أفخر به. وحينها فقط سمحنا لعمر وسارا بمشاهدة برامج الأطفال باللغة الإنجليزية ولكن فقط في إجازة نهاية الأسبوع وفي أوقات محدودة فقط.

أما سارا فكان الأمر معها أسوأ بكثير؛ لأنها تلعب مع عمر طوال اليوم، ومع المساعدات في المنزل اللاتي يتحدثن معها بالإنجليزية. وبسبب الظروف المحيطة بالجائحة لم ندخلها الحضانة، فصارت تعاني صعوبة في التواصل باللغة العربية، بالإضافة إلى ضعف شديد وملحوظ في مخارج الحروف بالعربية. لكن مع إصرارنا على التحدث بالعربية ومساعدتها وتصحيح مخارج الحروف تحسنت كثيرًا، إلا أنّه ما يزال أمامي عمل كثير يجب أن أقوم به كأم كي أساعدها أيضًا. وأريد أن أنوه هنا إلى أهمية الاستمرارية وعدم الاستسلام واستعجال النتائج لتحقيق الأهداف المرجوّة.

لا يوجد أي نظام تعليمي أو كفاءات تعليمية تستطيع إصلاح هذا الوضع، إن لم تكن هناك بادرة جدية يمارسها الآباء والأمهات في المنزل، لذا قررت أن أتحمل المسؤولية وآخذ زمام المبادرة لمساعدة أبنائي. أنا اليوم أشارككم تجربتي ومحاولاتي، وسأكون بانتظار آرائكم وتجاربكم للاستفادة منها كي تعم الفائدة للجميع.

اترك تعليقًا

Please note, comments must be approved before they are published

الرجوع إلى الأعلى