"وفاء" عسل الكلمات وأفق الأسئلة
على الرغم من أنّ قصة "وفاء" للكاتب علي القاسمي تحكي للأطفال يوميات طفل صغير مع بطته الأثيرة، وكيف أنّه فقدها في النهاية، حين غابت عنه في مجرى النهر وهي تتبع سربًا من البط البري ظهر فجأة في ليلة قمراء، إلا أنّ القصة تغتني بتفاصيل في غاية الجمال، وإشارات ذكية لحكايات وشخصيات تاريخية، يضاف إلى ذلك الأجواء الآمنة المحبّة التي ينغمس فيها القارئ وهو يعيش مع الطفل يومياته مع أسرته الصغيرة، كلّ هذا كتب بلغة ساحرة مكثفة غنية بالصور التي ترسم المشاهد رسمًا.
ولعل هذه اللغة هي أول ما يأسرنا حين يبدأ الراوي- الطفل يصف لنا بطته الجميلة "كان لونها ناصعُ البياض يعانق اللون الفضي لماء النهر، فيتداخل معه ويمتزج به ويذوب فيه، حتى يغدوا لونًا واحدًا متموجًا متلألئًا بفعل حركة النهر ونور القمر المطلّ من الأعالي". شغف الطفل بهذه البطة التي كانت هدية والده له بعد نجاحه في السنة الرابعة الابتدائية، وسمّاها "وفاء" لأسباب يعددها، وهو ليس متأكدًا منها، لكنّ البطة صارت ملازمة له، تصحبه في كل مكان، وتنتظره حين يذهب إلى المدرسة، وتستقبله بصيحات جذلى حين يعود.
يمضي الطفل يحكي لنا عن بطته في ثنايا وصفه لعلاقته بأبيه وأمه أخته، ووصفه لقريته البسيطة القريبة من النهر، وكيف اعتاد أن يخرج مع بطته بصحبة أبيه إلى النهر في المساء بعد صلاة العشاء، حتى يأتي ذلك المساء الذي يقرر فيه أن يصطحب بطته إلى النهر وحده، وهناك يخرج عليهما سرب البط البريّ الذي، حين رأته وفاء، تحركت نحوه ببطء، "ثم بسرعة متزايدة، وهي تبعث بصيحات مماثلة، فتنضم إلى بقية البط، وتنساب معه في وسط الماء منحدرة مع المجرى". ناداها الطفل يائسًا، ثم جلس ينتظرها على أمل أن تعود، لكنّ وفاء لم تعد أبدًا. وعلى الرغم من أنّ والده أحضر له، بعد ذلك، بطتين صغيرتين عوضًا عنها، لكنه أجاب بصوت متهدج وهو مطأطأ الرأس "أريد بطّتي وفاء".
لا شكّ لديّ أن القصة ستفتح أبوابًا كثيرة لأسئلة يسألها الطفل، ويحتار فيها تلك الحيرة اللذيذة التي تجعل الرؤية تتسع، والقلب يتأرجح بين قبول ورفض: قد يلتفت بذكاء للمفارقة بين اسم البطة "وفاء" وفعلها، ولابدّ سيسأل من هذا السموأل الشاعر العربي الذي اشتهر بالوفاء؟ ومن قيس الذي جلس ينتظر ليلى حتى نبت العشب بين أصابع قدميه؟ وقد يمتدّ به التفكير إلى الموازنة بين تربية الحيوانات وتركها حرّة تعيش في بيئاتها الطبيعية، وقد يفكّر بينه وبين نفسه: هل كان هذا الولد أنانيًّا يفكر في نفسه فقط ولا يفكر في حاجات بطته؟ هل أنا أنانيٌّ وأنا لا أدري؟ ليس للأسئلة والأفكار حدٌّ تقف عنده بعد قراءة هذه القصة البسيطة-العميقة، وفوق ذلك كلّه ليس لجمال اللغة وصفٌ يفيها حقّها.
للحصول على قصة وفاء يمكنكم الطلب من هنا.