ملحمة الحرافيش لنجيب محفوظ
دار النشر: مكتبة مصر (طبعة قديمة 563 ص) وطبعات حديثة من دار الشروق.
جدير بها أن تكون ملحمة. عشرة أجيال، وعدد هائل من الشخصيات التي تستغرب وأنت تقرأ، كيف تمكن محفوظ من جمعها كلها في كتاب واحد؟ هل كان يصنع عملًا خالدًا بمعناه البشريّ؟ تعاقب الأجيال الذي لن يتوقف، لن يحده شيء، كلما مات واحد أتى من بعده آخر، ولن يتوقف الزمن إلا عند نقطة واحدة لا نعرف متى تجيء. إنها رواية ثريّة بلغتها وشخصياتها وحكاياتها.
قسّمت الرواية على عشر حكايات، لعشرة أجيال من عاشور الناجي وفُلّة إلى عاشور ربيع الناجي وبهية بنت عدلات. كيف تبدأ الحكاية الأولى؟ تبدأ بالشيخ عفرة الذي يتجه إلى المسجد في صلاة الفجر ويعترض طريقه صوت بكاء طفل مُلّح.. يعثر على الطفل إلى جانب السور العتيق فيهمس تُدفن القلوب في ظلمة الإثم ... لعنة الله على الظالمين. يُواجَهُ الرجل الصالح الطيّب بالمعضلة الأخلاقيّة سريعًا، هل يأخذه لقسم الشرطة أم إلى زوجته أم يتركه فلا يفوته الفجر؟ يذهب إلى زوجته ويفوته الفجر، يقرران أن يربياه كابن لهما، يسمياهِ عاشور، يكبر عاشور ويشتد عوده فيقول الشيخ عفرة برجاءٍ: لتكن قوته في خدمة الناس لا الشيطان. ومن هُنا يستفتح الصراع بين الخير والشر، بين إتبّاع الله وتعاليمه، أو الانجرار خلف الشيطان. تتوالى الأحداث والصراعات بين درويش أخ الشيخ عفرة الطالح، وعاشور الذي يسعى لتتبع أحكام من ربّاه في كنفه على العبادة والصلاح.
وفي لغة ثرية مختزلة يصف لنا محفوظ تنقلات كثيرة، فلا يسترسل حين لا ينبغي له الاسترسال ولكنه يحشد لك التفاصيل التي ستهمك لتتبع سير الحكاية. سيتزوج عاشور مرة وينجب ثلاثة أولاد، ثم في سبيل حماية أولاده الذين انجرفوا إلى الخمّارة التي نصبها درويش في الحارة وأتى بفتاة جميلة اسمها فُلّة تعمل في الخمارة وتغوي أبناء عاشور، فيقرر عاشور أن يتزوّج هذه الفتاة، ومنها ستأتي أجيال عاشور الناجي الذين سيمتدون على مدى الرواية. ثم يصل عاشور بطريق معقد وملتبس إلى مركز سلطة في الحارة، حيث يصبح عاشور فتوّة الحارة ويبدأ في صنع عهد وتعريف جديد لمعنى الفتوّة، فلم تعد الفتونة بمعانيها القديمة من البلطجة والعنف والظلم على الضعفاء واستغلال السلطة ومال الإتاوات التي يجمعها الفتوة لحماية الحارة.
وهنا مركز الرواية بأكملها، هذا العهد الأسطوريّ المجيد الذي يصنعه عاشور بكرمه وطيبته ونشره الإتاوات على الضعفاء ومساعدة الناس، يتحوّل في أعين الناس إلى معجزة من السماء فيقدّسون عشور ويحبونه ويذكرونه كما لم يحبوا أحدًا من قبل. بينما في الوقت نفسه يكرهه الوجهاء والأغنياء في الحارة لأنه يأخذ منهم الإتاوات ويعطيها للفقراء، مما يقلل من مالهم وسلطتهم. وأعني أن الحكاية الأولى لعاشور هي المركز لأن كل الحكايات القادمة لأبناء عاشور وأحفاده تتردد بين صفحاتها الآمال والأحلام على ألسن الأبناء والأحفاد وسكان الحارة بالشوق والرغبة في أن يعود ذلك العهد، ويظل ذلك العهد مطبوعًا في ذاكرة الجميع، والجميع –بطريقة أو بأخرى- يحنّ إليه ويدعو لعودته، أو يسبّه ويرجو أن لا يُعاد أبدًا.
وهكذا تتقسم الحارة وتظل الحكايات تدور محمّلة بذاكرة حديديّة لعينة، تأتي بالخير على حاملها أحيانًا وتأتي بالشر على حاملها أحيانًا. إلى أن ييأس الحرافيش فيقولون: لم لا نشك في الماضي ليرتاح بالنا؟! وهنا ذكرياتك الخاصة تأتيك، فتسأل نفسك إلى أي مدى حمّلتني الذاكرة ما لا أطيقه؟ وإلى أي مدى سيّرتني الذكرى على طريقها وإن لم يكن هو الطريق الذي أريده لنفسي؟ وهل لو أننا شككنا في ماضينا ونسيناه وتخلصنا منه سنتمكن من إعادة خلق الحاضر والمجتمع بالشكل الذي نريد؟ وهل هذا ممكن في الأساس؟ هل من الممكن أن نتخلص من معتقداتنا التي تبدأ بطرق عجيبة وغريبة كما سيتبيّن لك في أمثلة عديدة من صفحات هذه الرواية.. كيف تبدأ المعتقدات؟ كيف تسيطر علينا؟ كيف تتحكم في حياتنا وتشكلها بالكامل؟ وإلى أي مدى لديك خيار؟ تقول لك الرواية أيضًا بطريقتها: نعم، بالرغم من كل شيء فإن لكل شخص أيًا كان أن يصنع بيده وخياراته ما يريد. سواء كان من الحرافيش –الفقراء أو سفلة الناس أو الضعفاء- أو كان من الوجهاء الأغنياء الذين يملكون كل شيء من مال وسلطة ومكانة وقدرة على تسيير الأحداث كيفما شاؤوا.
تستمر الصراعات بين النفس والآخرين والوباء والحارة بحرافيشها ووجهاءها. وينتقل محفوظ من حكاية إلى أخرى، ومن جيل إلى آخر. كل حكاية تتمخض عن صراعاتها وتطرح تساؤلاتها وتتشاحن فيها الحارة الواحدة بما تمر عليها من أحداث تستجد عليها بين أبناء عاشور وأحفاده وسكان الحارة والطامعين في سلطتها. يجيد محفوظ صُنع حكاياته ببراعة غير معهودة، تود أن تسأله كيف فعل ذلك؟ كيف تمكن من تقديم عدد ملحميٍّ من الشخصيات دون أن تشعر أنك غارق أو تائه؟ كأنه صنع لك عائلتك الخاصة، وقادك من يدك إلى كل فرد من أفراد هذه العائلة. إلى هذا المدى تمكن محفوظ من الكتابة بسلاسة وحنكة والتنقل من جيل إلى جيل، وزمن تلو زمن حتى يصير زمن الرواية ممتدًا، لا يقل عن 250 عامًا، يغطي عشرة أجيال بكاملها.
ولا شك أن تقسيم الفصول إلى حكايات، وتقسيم الحكايات الداخليّ بالترقيم سهّل هذا الانتقال من مشهد لآخر. أما فلسفات الرواية وتساؤلاتها وإسقاطاتها التي اتسعت لكبرى المواضيع التي تشغل العالم البشريّ كافة فقد تمكن محفوظ من طرحها في طيّات الرواية وربطها بالحكاية الأولى، بعاشور وإرثه الذي تركه ليُسعد ويُعذّب من أتى بعده. منها مثلًا الانجراف خلف الشهوات والغرائز وإغراء النساء والمال والسلطة الذي جاء في عدّة مواطن في الرواية وتجسّد في مثال سليمان حفيد عاشور الناجي الذي بدأ بوقوعه في حب سنية السمرى ابنة أحد الأغنياء فقال لنفسه: والضعف قبيح ولكن ألم يعشق عاشور فلة جدته. أليست دار السمرى أنقى من خمارة درويش. ثم تصبح زوجته الثانية وبإقامته في دار السمرى أيامًا معدودات كل أسبوع عرف نعومة المجلس ودفء المرقد وسلاسة الملبس وأبهة الماء الساخن في الحمام الفسيح، والستائر والوسائد والنمارق.... واضطر –ولأول مرة- أن يوزع عليهم في المواسم والأعياد، وفي سرية بالغة، من نقود الإتاوات. حتى يتحوّل سليمان مع الأيام إلى الفتوّة الذي يمتلئ بالدهن حتى صار وجهه مثل قبة مئذنة وتدلى منه لغد مثل جراب الحاوي. كما أن لغة محفوظ التي يتميز بها وقدرته المدهشة على الوصف تضعك حاضرًا متيقظًا كما لو أنك جزء من المشهد الذي يصفه.
تنتقل الحكايات بصراعاتها ويجيء محفوظ في إحدى حكاياته على الصراع الأزليّ بين الإنسان والموت ورغبته في الخلود وغيرها من المواضيع التي سيتآلف القارئ معها ويميّزها في واقعه أو مجتمعه أو تاريخ مر عليه. كما أن محفوظ في هذه الرواية يتفرّد باختيار أسماء الأفراد، فحين يعطي كل واحد منهم اسمًا فإنه لا يعطيه إياه اعتباطًا أو بلا سبب، بل كل اسم مدروس وكل اسم يُسقط عليه عشرات الإسقاطات والرموز .. فيأتي الفرد الواحد محملًا بحشدٍ من أفرادٍ آخرين وتأتي الحكاية الواحدة محمّلة بحكايات قديمة وأزلية ومذكورة على مر التاريخ والأديان.
لا يمكنك أن تتجاوز محفوظ، لا يمكن لأي قارئ جاد أن يتجاوز محفوظ، أو يفوّت عليه فرصة اللقاء به في رواياته وكتبه، ولن تُخطئ حين تختار ملحمة الحرافيش ليس فقط لكل ما ذكرته عنها سابقًا، بل لأنها رواية خرجت إلينا من بين يديّ كاتب كان قد مارس الكتابة على مدى 32 سنة، فتأكد أنك ستقرأ عملًا خالدًا لكاتبٍ متمرّسٍ محترف لا مثيل له.