بيت سيء السمعة مجموعة قصصية لنجيب محفوظ
صادرة عن دار الشروق، 205 صفحة.
نشرت للمرة الأولى عام 1965م.
يبدو أنَّ أَيَّ كِتابةٍ عن مَحفوظٍ تُجْحِفُهُ حَقَّه. لَسْتُ أَدْري كَيْفَ تَمَكّنَ منَ الوصولِ إلى هذا القَدْرِ العَظيمِ والبَسيطِ في آنٍ على حِكايةِ القِصّةِ كما لو أنّه يَصُبُّ ماءً في كأس. منذُ الكَلِمَةِ الأولى يَأْخُذُك مِنْ يَدِكَ وُيلْبِسُكَ أَجْسادَ الشّخْصياتِ التي تَعيشُ في القصةِ، فَتَسْمَعُ ما يَسْمعون، وَتَلْمَسُ ما يَلْمَسون، وتَتَذَوّقُ ما يَتَذَوّقون. وإن لم يَكُنْ هذا تجسيدًا كاملًا لِفَنِّ الحكايةِ والقَصِّ فلا أَعْرِفُ ماذا يُمْكِنُ أَنْ يَكون. وإنْ لَمْ يَكُنْ كَلامي هذا كافِيًا ليأْخُذَكَ نَحْوَ أَقْرَبِ كِتابٍ تَمْلِكُه لِنجيب مَحْفوظ، لم تَقْرَأْهُ بعد، وَتَشْرَعُ في قِراءَتِهِ فَوْرًا من دونِ تَأْجيلٍ فلا أَعْرِفُ ماذا أَقولُ لك أَكْثَر.
الذي سبق وقرأ لنجيب محفوظ سيكون بلا شك قد انتبه لمهارة محفوظ في اختيار عناوين القصص، وامتلاكه لقدرة الترميز العالية في اختيار أسماء الشخصيات بما يرتبط بموضوع القصة وطبيعة الشخصية. فقد تمكن في قصة "حلم نصف الليل" أن يصنع ترابطًا بين بطل القصة "عباس" وسيدنا الخضر على نحو بالغ الذكاء. ففي حيّ عباس تتكرر جريمتان في التوقيت نفسه. وفي المرتين يكون الضحية هو زوج أم عباس، ولا يُعرف من هو القاتل. يوضح لنا محفوظ في هذه القصة مثالًا واقعيًّا يتكرر، إذا ما مات زوج تود الزوجة أحيانًا في الزواج مرة أخرى، ولم لا طالما أنها امرأة جميلة؟ أم عباس امرأة جميلة، عرفت في الحي بجمالها، ويتطلع إليها أصحاب الأذواق كما يتطلع أهل الخلاء إلى عين ماء. ولكن عباس لا يقبل شيئًا كهذا ويُصرّ أنه لا يصح أن يحل محل الأب رجل آخر... ولهذا لا يعيش مع والدته، وكلما مر أسفل نافذة منزلها يصرخ بأعلى صوته يا أم عباس... الله يسامحك. يكرر محفوظ صفة شخصية الزوج الذي يستولي على ثراء أم عباس، ويعنّفها. إلى أن تحدث الجريمة الأولى في الحيّ، يُقتل زوج أم عباس وعند الفجر تعالى صراخ فمزق السكون تمزيقًا. وعندما يُسأل عباس في التحقيقات أين كان وقت الجريمة يقول: كنت مع الخضر. (..) ألا تعرف سيدنا الخضر؟! وعندما يتكرر الأمر ذاته مع الزوج الثاني، ويُقتل هو الآخر لا يجعلك محفوظ تتأكد فقط من أن عباس هو القاتل، إنما هو يجعلك ترى إلى أي مدى عباس يرى في فعله منطقية تامة، بل ويراه أمرًا إلهيًا لابد من تنفيذه! كما لو أنّه قد قابل سيدنا الخضر الذي ورد ذكره في القرآن، والذي تلقى تعليمات من الله سبحانه بتنفيذ أمور تعجّب منها سيدنا موسى عليه السلام في كلّ مرة وما طاق عليها صبرًا! من أنت يا عباس؟! وماذا يقول لك سيدنا الخضر كل ليلة؟! وهكذا يجعلك محفوظ تخرج من كل قصة وأنت في دهشة من رمزية الأسماء ومن الرسم الدقيق لشخصيات قصصه الحيّة ومن التناص بين بعض نصوصه، ونصوص وأخرى، ذات زخم ديني أو ثقافي أو تاريخي كبير.
وفي قصة "قوس قزح" ستسمع الأب حسن الدهمان يردد "هذا هو عين العقل" هذه الجملة إكليشيه يختم به الرجل مناقشاته وتقريراته الموفقة. في منزل يتسم باتباع نظام صارم على الجميع باستثناء ابن واحد اسمه طاهر ينفجر كألوان قوس قزح في منزلٍ لا يؤمن سوى بلون واحد هو لون "العقل". لقد آمن طاهر بأن مقولة "هذا هو عين العقل" تطارده حيث ذهب. إنها تطوقه في الظاهر والباطن. إنه غريق في نسيجها المحكم، (يحتاج القارئ هنا أن يعرف كيف كانت نهاية طاهر هذا لتكتمل الصورة)
وفي قصة "بيت سيء السمعة" سترى منزلًا كعنوان القصة، والبطل يُحبّ فتاةً من ذلك المنزل ولكنه لا يتمكن من مواجهة عائلته ولا المجتمع خوفًا على سمعته، وبينما هو يتنزه مع حبيبته المحرّمة هذه في حديقة الحيوانات يجد نفسه في القفص كالحيوانات التي تحيط به من كل جانب. وكأن محفوظ يقول لنا إن مجتمع القصة يعتقد أنه مجتمع متحضّر ومحترم، بينما هم يتصرفون كالبهائم. كل بيت ينطوي على نفسه كالسر. النساء عورة والحب حرام، والزواج إجراء من اختصاص الرجال، والعروس آخر من يعلم.
أما في قصة "الختام" فسترى مثالًا لموظف في مؤسسة حكومية ارتكب خطأً في ماضيه، إلا أن هذا الخطأ الذي ظن أنه قد طواه النسيان يعود ليطارده ويُطالبه بالتخليّ عن مبادئه من أجل إخفاء حقيقته هذا يورطني في تصرفات طالما عففت عنها.. وتبادلا نظرة انكسر لها قلب الرجل. تألم بلا حدود. إنه يسخر من تعففه ومن حياته جميعًا. فتسأل نفسك، ماذا لو كنت أنا؟ ماذا لو كان سيضيع منصبي وكل إنجازاتي المهنية بسبب خطأ ارتكبته في الماضي، هل سترتكب جرمًا جديدًا لإخفاء القديم؟ أم سترفض ارتكاب أخطاء جديدة وتخسر كل شيء؟
وأمّا عن أوصاف الشخصيات والأماكن فنجيب محفوظ من أمهر الكُتّاب في ذلك فمرّة يصف: سيدة واضحة الكهولة، مقعّرة الخدين من ذبول، بارزة الفم، تعكس عيناها نظرة متعبة، وتضفي عليها ملابس الحداد تجهمًا وكآبة. وفي أخرى يصف: ولأنها ممتعضة دائمًا مكفهرة ومتوثبة للشجار دائمًا فقد قست ملامحها وبردت نظرتها وطبعت بطابع الجفاف فركضت الشيخوخة نحوها بلا رحمة...
ستظلّ ملامح بعض الشخصيات عالقة في ذهنك، وقد ترى لهم أشباهًا وأنت تعبر الشارع، وستظلّ الكلمات تأسرك كلما أعدت قراءتها، كبداية قصة "عابرو السبيل":
اندمج الشارع الكبير في حياة هؤلاء الناس. شارع قصر النيل. ما بين السابعة والثامنة صباحًا يقطعونه ثم يتفرقون إلى أماكن أعمالهم. وتتكرر الرحلة في نظام فلكي على مر الأعوام. بدأها كثيرون وهم في ريعان الشباب والفتوة وواصلوها حتى أدركتهم الشيخوخة وتخايلت لأعينهم النهاية. ومنهم من ينقطع دون سبب معروف للآخرين إذ إنهم يترافقون في الطريق ولكنهم لا يتعارفون. والعين تلقى نظرة عابرة فلا تكاد ترى، كأن الآخر شجرة مغروزة في الطوار، وربما استيقظت لسبب ما فترى بدهشة العوالم الغريبة الماضية في سبيلها، كل عالم وحدة من الأسرار والأفراح والأتراح التي لا تدري شيئًا عن الآخرين، ولا تجد وقتًا للتعرف إلى ذاتها وتجهل كل الجهل مصيرها، عند ذاك تتفجر الألسنة في غزارة ولكن تشح الأجوبة حتى الإرهاق، وتشمخ السماء بصفحتها – الصافية أو الملبدة تبعًا للفصول- فلا تشفي غليلًا ولا تبدد حيرة.